لماذا ينكرون الإمامة؟ (2)

الباحثة: رجاء محمد بيطار

 إن علماء الشيعة وفقهاءهم قد استطاعوا على مرّ التاريخ أن يثبتوا لمنكري الإمامة بطلان أحدوثتهم، وكانت مناظراتٌ شتى بين علماء المسلمين تُعقد في كلّ حين، فيقوم كلٌّ بحشد كلّ إمكاناته ومراجعه ومصادره ليثبت رأيه ورأي بني ملّته، ولكن النتيجة كانت دائمًا في صفّ علماء الشيعة، الذين لم يكونوا يجدون صعوبةً في إثبات الإمامة، فقد كانوا يحاورون علماء العامة بموضوعيةٍ وحجةٍ دامغة، ويأتون بالشواهد المفحمة من كتاب الله وكتب الفريق الآخر، فصحاح السنة تعجّ بدلائل الإمامة، ولكنهم لسببٍ ما لا يقتنعون!

إننا سنركّز في هذه المقالة على هذا السبب، وعلى الدلائل التي سنذكرها باختصار، ويمكن لمن أراد التفصيل أن يعود إلى كتبٍ كثيرةٍ توثّق تلك المحاورات، ككتاب المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين العاملي، وكتاب ليالي بيشاور لسلطان الواعظين السيد محمد الموسوي الشيرازي وغيرهما.

أما السبب الذي يدفع إنسانًا إلى الاعتقاد بخلاف ما يصل به إليه عقله، فليس إلا غلبة الهوى وإرضاء السلطان، على حساب الإنصاف وكلمة الحق التي لا تعدلها كل كنوز الدنيا مجتمعة، وإن الحديث عن هذا السبب لا يمكن فصله عن دلائل الإمامة، التي سنأتي على استعراضها بشكل مختصرٍ وسريع.

لقد ادّعى منكرو الإمامة قديمًا أن النبي لم يترك خليفة، وأنه ترك أمر خلافته شورى بين المسلمين، وهنا تستوقفنا نقطةٌ بالغة الأهمية، فإن خاتم الأنبياء قد شدّد على أهميّة الوصية حتى جعل تركها بمثابة العودة إلى الجاهلية، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية...﴾[1]، والحديث الشريف: "من مات بلا وصية مات ميتةً جاهلية"[2]، فهل يدعو النبيّ الناس إلى شيءٍ ولا يفعله؟! وهل يكون للوصية في الأموال والأملاك من الأهمية ما لا يكون في أهمّ مرتكزات الحياة، ألا وهو التشريع الإلهي، الذي يفوق في خطره وعظيم شأنه كل ما يملكه الإنسان؟!... كما أن سائر الأنبياء تركوا بعدهم أوصياء بأمرٍ إلهيّ، فعلام يكون النبي مخالفًا لهم في ذلك؟! ومعلومٌ أن الوصي مهمته ترسيخ قواعد الرسالة والمحافظة عليها، فهل انتفت في خاتمة الرسالات هذه الحاجة؟! أم هل كان الناس في عهد النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم منزّهين عن الخطأ والزلل حتى لا يحتاجوا إلى من يرشدهم بعد نبيّهم؟! ومعلومٌ أيضًا أن القرآن الكريم خاطب المنافقين في عهد النبي بأكثر مما خاطب به الكافرين، مما يدلّ على خطرهم وكثرتهم، بحيث أن الآيات الكريمة توجّهت إليهم وحذّرت منهم بشكلٍ جليٍّ وبارز، كمثل قوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا﴾[3]، و﴿وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا﴾[4]، وغيرها...

إنه ها هنا مربط الفرس، ومن ها هنا انبثقت المشكلة الكبرى، فخليفة النبي الذي يتابع طريقه الداعي إلى الله ويواكب تشريعاته المخالفة لهوى النفوس المريضة، لن يكون مناسبًا لهؤلاء المنافقين إن كان سيسير فيهم بسيرة النبيّ... إنهم ما كانوا يستطيعون فكاكًا من سلطة النبوة، فالرسالة ثُبّتت دعائمها وانتهى الأمر، وغلب الحقّ على الباطل، وغدت دولة الإسلام أمرًا واقعًا مرتبطًا بإرادة السماء، وها هو النبي لا يفوّت فرصةً لإعلان وصيّه الإلهيّ إلا استثمرها، منذ بداية الدعوة إلى نهايتها، وها هو يعيد ويكرّر على مسامعهم أحاديثه الناصّة على فضل عليّ عليه السلام، فهو الأعلم والأتقى والأول في كلّ شيء، بدءًا بالإيمان ومرورًا بصفات الكمال الإنسانيّ... وها هو يختاره للمؤاخاة، وها هو حديث المنزلة يؤكّد على تلك الخلافة الربانية، ومما لا شكّ فيه أن أحدًا من أصحاب النبي لم يبلغ مرتبة عليّ لديه، لا في القربى ولا في أيّ صفةٍ أخرى، وها هي الآيات تترى، من آية التصدّق بالخاتم، إلى آية المباهلة، إلى آية التطهير، وغيرها كثير، وكلّها نصوصٌ على ولاية المؤمنين لعليّ، فلو أن النبي لم ينصّ عليه بوصيةٍ صريحة، لكانت كلّ هذه الآيات والأحاديث كافيةً لتفضيله على كلّ من عداه، فكيف والنصّ يوم الغدير كان عليه، والروايات المتفقة المتواترة بين المسلمين جميعًا تؤكّد أنه كان ملازمًا للنبي في حلّه وترحاله، ويده اليمنى في كل أعماله، ووزيره وصفيه وأحب الناس إليه، لا من قبيل المودة القلبية فقط، فالنبي لا ينطق عن الهوى، بل هو وحيٌ يوحى، بل من قبيل التأكيد على أفضليّته وجدارته وخلافته...

خلاصة القول أن المنصف في القراءة التاريخية لسيرة النبي الأعظم لا يمكن إلا أن يرجّح كفة علي عليه السلام على كلّ من سواه من صحابة النبي، بالغًا ما بلغت فضائل أحدهم، سواءً كانت فضائل مخترعةً من قبل السلاطين أو فضائل أصيلة لا يختلف فيها أيٌّ من الفريقين، ويكفينا في عظيم فضله شهادة الشافعي، أحد أكبر علماء أهل السنة، بحقّه في قوله: "ماذا أقول في رجلٍ أخفى أولياؤه فضائله خوفًا وأخفى أعداؤه فضائله حسدا، وشاع له بين ذين وذين ما ملأ الخافقين؟!"[5]

إن هذا القول بالذات يحكي لنا قصة إنكار الإمامة عبر القرون، فعليٌّ عليه السلام الذي كان فضله أشهر وأوضح من أن يختلف فيه اثنان، والذي نصّت عليه الآيات والأحاديث الشريفة بأوضح برهان، قد اغتُصب حقّه في الخلافة لصالح أولئك الطامعين الذين عارضوا إرادة الله ورسوله بقولهم في كلّ صلافة: "كرهت قريش أن تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم"[6]... ومتى كان لقريشٍ وغير قريشٍ أن تأبى أوترضى في مقابل رضى الله ورسوله، حيث قال عزّ من قائل: ﴿وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضلّ ضلالًا مبينا﴾[7]...

إن تلك المخالفة الصريحة لله ولرسوله، والاجتهاد بالرأي مقابل النصّ الصريح الواضح، واضطهاد المناصرين لعليٍّ عليه السلام وإلزامهم ببيعة من هو دونه، هو الذي حدا بالأمة إلى الاختلاف، وقد استهان القوم بحرمة كلام الله ورسوله وخالفوا وصيّته، فهان عليهم في سبيل توطيد ذاك الحكم المعاند لإرادة الله أن يظلموا بضعته وابنته وبقيته الباقية فيهم، وأن يؤذوها في نفسها وفي زوجها، وأن يتعدّوا على حرمة أهل بيت النبي بكلّ ما أوتوا من وسائل، وأن يغتصبوا إرث ابنته لكي لا يتركوا لها ولزوجها موردًا قد يموّل ثورةً مرتقبة، ولكن الإمام عليه السلام وزوجته العظيمة لم ينحدرا إلى ذلك المستوى، وحاشا لهما أن يفعلا، فالثورة في تلك الظروف الصعبة تجعلهما في نظر القاصرين وما أكثرهم، طالبَي سلطانٍ لا مطالبَين بحق الله وميراث نبيّه، بعد إذ اختلطت الأمور على الناس، وما أهونها من جريمةٍ يمكن أن يرتكبها هؤلاء المنافقون حينئذٍ في حقّ الخليفة الشرعيّ ليطمسوا بها الحقّ إلى الأبد، بعدما تجرّأوا على حرمة فاطمة التي قال فيها نبيهم: "إنما فاطمة بضعةٌ مني يؤذيني ما آذاها..."[8]

لقد صبر عليّ عليه السلام وفي العين قذى وفي الحلق شجى، وقضت فاطمة عليها السلام بعدما أوذيت وصبرت ودُفنت ليلًا وسرًّا بعد وفاة أبيها بأقل من ثلاثة شهور، لتبقى وفاتها شاهدةً على مظلوميتها، وإخفاء قبرها شاهدًا على غضبها المستمرّ على من ظلمها وظلم بعلها وأولادها، وأنكر حقّها وحقّهم...

واستمرّ الظلم وازداد، وتوالت القرون لتبعد الظالمين وأتباعهم من الضالين عن منبع الحقّ المبين، واستمرّ إنكار الإمامة ليأخذ اشكالًا أخرى من الاضهاد وتحوير معالم الدين، وهي الأمور التي سنناقشها في المقالة المقبلة إن شاء الله، حيث سنرصد ملابسات ومظاهر هذا الإنكار والجحود التاريخيّ.   


[1] سورة البقرة الآية 180

[2]  مشكاة الأنوارللطبرسي ص585، ووسائل الشيعة للحرّ العاملي ج19 ص259، ومن كتب السنة 

[3]  سورة النساء الآية 61

[4]  سورة الأحزاب الآية 12

[5]  كشف اليقين للعلامة الحلي ص4

[6]  شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد ج 12 ص53

[7]  سورة الأحزاب الآية 36

[8]  بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج29 ص337