لماذا ينكرون الإمامة؟ (3)

الباحثة: رجاء بيطار

الصورة: قاسم العميدي

"والله لو أن النبي تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لما ازدادوا على ما فعلوا بنا..."[1]

لعل هذه العبارة، التي قالها الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام حين خطب في أهل المدينة، بعد عودته وعماته وأخواته وركب السبايا من معمعة السبي والأسر والمهانة والتشريد، ما بين كربلاء والكوفة وشام يزيد، لعلها تجسّد واقع حال آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته، لا بعد مأساة كربلاء فحسب...

لقد كان غصب حقوق أهل البيت المادية والمعنوية هو أول الغيث، والاستخفاف بحرمة بيت فاطمة وعليّ عليهما السلام مع مقامهما من النبي أول سهمٍ رشق به المتآمرون كيان الأمة لا الإمامة فحسب، ثم كان ادّعاء الخلافة لمن لم ينصّ عليه القرآن ولا الحديث ولا العقل، وكانت النتيجة إنكار إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ عليه السلام، والأئمة التالين له من ولده، بدعوى "أن قريش أبت أن تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم"[2] تارة، وأن ﴿أمرهم شورى بينهم﴾[3] تارةً أخرى... حتى بلغ الأمر بهؤلاء الغاصبين أن استباحوا حرمة الرسول في كلّ حين، وصاروا أعداءً لآهل بيته بدل أن يتولّوهم، ومآسي استشهادهم جميعًا شاهدةٌ على هذا التاريخ الأسود المشين.

ولعل المتتبّع لآثار ذلك الإنكار لحق الخلافة في البداية، بدعوى الشورى، يلاحظ أن جماعة المهاجرين والأنصار الذين اجتمعوا في السقيفة لينتخبوا خليفة للنبي، كانوا أبعد الناس عن الشورى، بعدما عارضوا الآيات الناصّة على ولاية عليّ، والأحاديث المتواترة في تنصيبه خليفة، برأيهم المجرّد، ولم يستشيروا أقرب الناس إلى النبيّ في أمر الحكم، بل فرضوا عليه وعلى جميع من لم يشهدوا اجتماع السقيفة، مبايعة أبي بكرٍ بالقوة، مع أن الغائبين عن الاجتماع كانوا أكثر الناس جدارة بإبداء الرأي لا بالخلافة فقط، إن كان لإبداء الرأي من مكانٍ في مقابل النص الصريح، فـ"أقضاكم علي"[4]، و"أعلم الأمة من بعدي علي بن أبي طالب"[5] ، وعلي باب مدينة علم النبيّ[6]، وأبو ذرٍّ مثلا، كان مصداق ومحور الحديث الشريف: "ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجةٍ أصدق من أبي ذر"[7]، وعمار بن ياسر كان محور حديث النبي "يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"[8]، وسلمان المحمّديّ كان بحقّ "منّا أهل البيت"[9]... إلى آخر أولئك الخلّص الذين لم يكونوا حاضرين لذلك الاجتماع الأبتر، وكيف يحضرون وعليّ عليه السلام منشغلٌ بتجهيز النبي ودفنه؟ وهم محزونون متأثّرون، وآخر ما كان يدور ببالهم هو الحكم والخلاف عليه، فالأمر قد قضي، والنبيّ قد أوصى، وكلامه وحيٌ يوحى، فكيف يتجرّأ هؤلاء على مخالفته والتذرّع بحجج واهية؟!

إذًا، فأمر الشورى كان باطلًا من أساسه، فضلًا عن أن آية الشورى نزلت لتوضيح عدم استبداد النبيّ برأيه دون أصحابه، إذ كان يستشيرهم في كلّ أمر، ثم يعمل بما يهديه إليه رأيه، فإن خالفهم وجبت عليهم طاعته، فأي علاقةٍ للشورى في اختيار الخليفة إذًا؟!

إن الإجابة عن سؤال: "لماذا ينكرون الإمامة؟" تتطاول وتتوسّع مع توسّع رقعة الزمان والمكان الذي اختصّ بهذه الإمامة المقدّسة، فمع عليّ عليه السلام كان الجواب كما أسلفنا في المقالة الماضية، أن القوم أبوا أن ينصاعوا لحكمٍ لن يتمكّنوا فيه من تنفيذ مآربهم، وفرض سيطرتهم الدنيوية التي لا تناسبها الضوابط الأخروية المناقضة لأهوائهم... واستمرّ هذا السبب ينمو مع الزمن ويترعرع ويتفاقم، وكبرت مآرب القوم وتعاظمت أهواؤهم، وازداد انحرافهم عن خطّ الرسالة، وازداد إنكارهم للإمامة ككلّ... وهل كان يُتوقّع من الخلفاء الثلاثة المتتالين على الحكم، واحدًا بوصاية واحد، أن يتراجعوا عما انتهجوه في البداية من مخالفة الوصية؟!... كلا، بل إنهم غدوا يمعنون في الانحراف، فبعدما حكم الأول لسنتين وثلاثة اشهر ضيّع فيها آخرته بدنياه، وكرّس مخالفة النبي بالقول والفعل الصريحين مغتصبًا فدكًا من فاطمة (ع)، والخلافةَ بمساندة عمر من عليّ (ع)، ثم حكم الثاني فخالف برأيه سننًا أكثر، وحرّم بعض ما أحلّ الله، من الزواج المؤقّت إلى طواف النساء، إلى غيرهما، فخالف بذلك حديث النبي: "حلال محمدٍ حلالٌ إلى يوم القيامة وحرام محمدٍ حرامٌ إلى يوم القيامة"[10]، فابتدع وأضاف في الدين وغيّر... وأنعش العصبية القبلية بشتى الوسائل، مميّزًا في العطاء والحقوق والمعاملة بين الحرّ والعبد، والعرب والموالي، والمهاجرين وغيرهم.

 وقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله: "لا فضل للعربيّ على العجميٍّ ولا  للأحمر على الأسود إلا بالتقوى"[11]... حتى سلّم مقاليد الخلافة بعده لعثمان بشكلٍ غير مباشر، ومن أراد تفصيل ذلك فليعد إلى مصادره، ثم عاث بنو أمية خرابًا في جسم الدولة الإسلامية، فقد كانوا أخوال عثمان وذوو السلطان في خلافته، حتى تسلّم معاوية ولاية الشام وهو ممن لا يحقّ لهم الحكم لكونه من الطلقاء، وكانت تلك المخالفة المميتة التي هدمت أركان ما تبقى من الدين، وغدا الحكم بعدها ملكًا عضوضًا في بني معاوية وبني مروان... أما حكم الإمام عليّ عليه السلام، والذي اعترض سبيل حكم معاوية، ما بين عثمان وبينه، فقد كان كلمة الحقّ في وجه سلطانٍ جائر، لم تكد تنفرج عنها الشفاه وتستقرّ في القلوب، حتى اندلعت الثورات والحروب، وصار أشدّ الناس عداوةً لعثمان، عائشة وطلحة والزبير، هم أكثر الناس مطالبةً بدمه، وذلك لعدم رضاهم عن وصول الحكم إلى الإمام عليه السلام، لطمع كلّ منهم بالخلافة، فعائشة كانت تبغيها لعبد الله بن عمر، وطلحة والزبير أراداها لنفسيهما...

إن الحديث في اغتصاب الخلافة وإنكار الإمامة حديث ذو شجون، فلقد امتدّت تلك الأصابع الشيطانية التي تلاعبت بوصية النبي لتعيث فسادًا في جسم الأمة الإسلامية، وإذا بالداء يستشري والمرض يستفحل، والدين يتحوّل إلى قشورٍ ومظاهر، والخلفاء إلى ملوك، وينقلب الحكم من مسؤوليةٍ يضطلع بها الحاكم لإحقاق الحق وإرساء دعائم العدل إلى امتيازٍ يناله، وإذا ملوك بني أمية وبعدهم ملوك بني العباس أكثر الناس فسادًا وفسقًا وفجورا... يتزيّون بالدين ويلقلقون به فوق رؤوس المساكين ليفتنوهم عن حقيقة ما هم فيه منغمسون، ويخترعون الأحاديث على لسان النبي ليبرّروا رذائلهم، ويشترون هذا وذاك من الرواة الذين أعمت عيونهم وقلوبهم الدنانير والدنيا الغرور، فكذبوا على الله ورسوله لينالوا متاع الدنيا ويتلظّوا بعدها بنار الجحيم...

أما الإمامة، فلعل الحديث السابق للإمام زين العابدين يحكي حالها، وكيف كاد الحكم الغاشم أن يطمسها ويفنيها، ولعله كان ليفعل لولا رحمة الله بعباده، واصطفائه للخيرة بعد الخيرة، من آل بيت محمد المصطفى صلى الله عليه وآله، الذين نذروا أنفسهم لإرساء معالم الدين وإصلاح أمره، ورفض الحكم الظالم وأهله، ولم يعد يعنيهم إلا تصويب الأخطاء وتشذيب الشريعة مما لحق بها من تشويه... ومع أنهم ما طلبوا الحكم ولا سعوا إليه، إلا أن الخلفاء اضطهدوهم ولاحقوهم وكلّ من تولّاهم وأحبهم، وقتلوهم تحت كلّ حجرٍ ومدر، والتاريخ يشهد بمظالمهم التي لا تُنكر.

تلك كانت بعض أسباب إنكار الإمامة عبر  التاريخ، ولا تزال مستمرّةً إلى يومنا هذا، ولو أردنا تفصيل هذه الأسباب فلن تكفينا مجلداتٌ ضخمة، ولكننا نكتفي بهذا القدر، ومن أراد المزيد فسيجده حيث يريد، في هذا العصر الذي لا يكلّف عناء البحث أحدًا أكثر من لمسة زر، فما أنكر الحقّ إلا من أغاظه الحقّ وخالف هواه، والضريبة قد دفعها البشر أجمعون، لا المسلمون فحسب، فإن الدين العالمي الذي خصّ الله به عباده ليخرجهم به من الظلمات إلى النور، قد حوّره المنافقون ليخرجوهم به من النور إلى الظلمات، وبدل أن تعمّ الرحمة المحمدية العالم بإمامة العدل العلويّ، فقد تحوّل الإسلام إلى دين فتوحٍ وحروبٍ توسّعية، وامتطى الحكام الفاسدون ظهره وجعلوه غطاءً لحكمهم لا هدفًا له، مما جعله يتقوقع في قوقعة الحكم الدنيوي، ويتقزّم في دولٍ ودويلات، لم يجسد أكثرها قيم الإسلام ومعانيه الراقية، بل تشدّقوا بها متباهين وكانوا عنها غافلين.

ولا يزال إنكار الإمامة مستمرًّا حتى اليوم بصورٍ مختلفة، فالسلاطين الذين خطّوا التاريخ بأقلام النفاق، استطاعوا أن يضلّلوا الكثيرين، ولكن الله يتمّ نوره على من سعى إلى الهدى، فيصل إلى الحقّ المبين ولو بعد حين... أما من يَضلّ فعليه وزره، وعلى أولئك المنافقين الأوائل الذين لم يظنّوا أنهم سيلاقون ربّهم، فطغوا وبغوا وحسبوا أنهم في الدنيا خالدون، ومضوا في سبيلهم إلى حيث يحاسبون على ما جنت أيديهم، وبقي الآخرون الذين يعلمون أنهم سيُسألون، ليجدوا الجواب على سؤالهم، لو كانوا يبحثون، فهل علم هؤلاء يا ترى، ماذا ينكرون من الإمامة ولماذا هم لها منكرون؟!

 


[1]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج45 ص149

[2]  شرح نهج البلاغة، ابن أبي حديد، ج12 ص53

[3]  سورة الشورى الآية 38

[4]  الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج2 ص103

[5]  مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، الفصل السابع ص40

[6]  المستدرك ج3 ص126 و127

[7]  بحار الأنوار، ج22 ص329

[8]  أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين العاملي، ج8 ص373

[9]  بحار الأنوار، ج22 ص331

[10]  الكافي، الشيخ الكليني ج1 ص58،

[11]  مستدرك الوسائل، المحدّث النوري،  ج12 ص89 الحديث 13598