لماذا ينكرون محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ (3)

الباحثة: رجاء محمد بيطار

بين إنكار الملحدين بالنبوة للنبي محمد (ص)، وإنكار المؤمنين بها فرقٌ كبير، وقد تقدّم في المقالات السابقة الحديث عن هذين الأمرين، وقد تم الردّ بالحجة والبرهان العقليّ والنقليّ على كليهما، فبعد إثبات ضرورة النبوة وحتميّتها كمظهرٍ من مظاهر العدل الإلهيّ ﴿ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حيّ عن بيّنة﴾[1]، ولئلّا يقول أحدٌ ﴿ربّنا لولا أرسلتَ إلينا رسولًا فنتّبع آياتك ونكون من المؤمنين﴾[2]، وبعد استعراض بعض الشبهات التي افتراها المنكرون حول شخصية النبي الأعظم (ص)، مع الردّ عليها بما يوافق العقل والمنطق والحكمة والذوق السليم، ننتقل إلى هذه المقالة، وهي الثالثة في الردّ على منكري نبوة محمد (ص)، والتي تأتي في باب دحض الشبهات التي أطلقها المغرضون والجاهلون حول نبوته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وحول الأحكام التي أتى بها الإسلام...

أوّلًا: إنكار اليهود والنصارى لنبوّته

ثانيًا: طرح بعض الشبهات حول أحكام الإسلام

-إنكار اليهود والنصارى لنبوة محمد (ص): ليس هذا الإنكار حديثًا، بل هو من عمر الرسالة الإسلامية، وقد واجه به الأحبار والرهبان وأتباعهم النبي (ص) وأتاهم الردّ في القرآن الكريم، كما كانت مناظرة الإمام الرضا (ع) مع الجاثليق النصراني ورأس الجالوت اليهودي وسائر رؤوس الملل والأديان معروفة، وفيها تبيان ذكر النبي في كتبهم وعقائدهم، فكانت حجّته عليهم أبلغ إذ أخرج لهم من التوراة والإنجيل ما أثبت به نبوة محمد (ص)، ومن أراد أن يطّلع عليها فليرجع إلى الكتب المعتبرة، وعلى رأسها كتاب "عيون أخبار الرضا (ع) للشيخ الصدوق[3].

ولعل من المفيد أيضًا إيراد بعض النصوص التوراتية والإنجيلية التي لا يمكن أن تؤوّل إلا بالإنباء عن النبي محمد (ص)، على لسان موسى وعيسى عليهما السلام:

-[يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبيًّا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي فيه ويقول لهم ما أمره به والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلّم باسمي فأنا أنتقم منه ومن سبطه][4] (قوله لبني إسرائيل:"... من إخوتهم" يدلّ على أنه من ولد إسماعيل، فلو كان من ولد يعقوب لقال "منهم"...)

-[أقبل الله من سيناء وتجلى في ساعير وظهر من جبال فاران ومعه ربوات الإظهار عن يمينه][5] ( وسيناء مكان تجلّي النور الإلهيّ لموسى، وساعير مكانٌ معروفٌ في بيت المقدس يشير إلى عيسى عليه السلام، أما فاران فهو جبلٌ بمكة، وهو حتمًا يشير إلى محمدٍ (ص) إذ لم يظهر نبيٌّ غيره هناك...)

-[إن خيرًا لكم أن أنطلق لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة، وإن لي كلامًا كثيرًا أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله، لكن إذا جاء الروح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلّم بما يسمع ويخبركم بكلّ ما يأتي][6]، كما جاء في موضعٍ آخر: [ثم رأيت السماء مفتوحة، وإذا حصانٌ أبيض يسمى راكبه باسم الصادق الأمين الذي يقضي ويحارب بالعدل][7] (والواضح أن الفارقليط ليس إلا النبي (ص) وذلك لتطابق أوصافه معه، حتى لكأن الكلام الأول يتطابق مع الآية الكريمة: ﴿وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى﴾[8]، أما "الصادق الأمين" فهو اللقب الذي أطلقه أهل مكة على النبي (ص) في صباه وشبابه قبل البعثة، ولم يُعرف أن أحدًا اشتهر به غيره).

... ويطول الشرح وتكثر الشواهد في هذا الباب، علمًا أن الشواهد المذكورة هي مستلّة من التوراة والإنجيل المتداوَلَين، على أن في إنجيل برنابا تحديدًا، تصريحٌ باسم النبي محمد (ص)، في أكثر من موضع، ولكن النصارى أنكروا هذا الإنجيل، رغم تفوّقه على سائر الأناجيل في الحكمة والبلاغة، واتفاقه معها في أكثر ما فيها، وذلك لأنه يختلف عنها بمجموعةٍ من العقائد الأساسية التي في مقدمتها أنه لا يعتبر أن المسيح هو ابن الله... ولأسبابٍ أخرى عديدةٍ ليس هنا مجال بحثها...

وقد جاء في الذكر الحكيم ما خاطب به الله عزّ وجلّ اليهود والنصارى مبيّنًا لهم ضعف حجّتهم، مؤكّدًا على ورورد اسم النبي في كتبهم، فقال عزّ من قائل:

﴿الذين يتّبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتّبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون﴾[9]

﴿وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدّقًا لما بين يدي من التوراة ومبشّرًا برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين﴾[10]

وبما أن مواجهة الباطل للحقّ وأهله لا تنتهي، حتى وإن أُتمّت عليهم الحجة، فهي تتجدّد بمرور الزمن كتجدّد الأهواء ووساوس النفس والشيطان، من جيلٍ إلى جيل، ولذا فقد استمرّت ولا تزال حتى يومنا هذا، بل هي قد اتّخذت أساليب جديدة أكثر مكرًا ودهاء، وطرحًا لشبهاتٍ لا يقبلها من لديه أدنى معرفةٍ بالمنطق والتاريخ وغيرهما من العلوم الفكرية والإنسانية، وهي ستكون مدار بحثنا في المقالة المقبلة إن شاء الله، ونسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لإماطة الأذى عن نبينا العظيم، الذي ما أوذي نبيّ كما أوذي، وما حورب ولا استهين بحرمته كما استهين به، ولا عجب أن يكون الحال هكذا، فهو تجسيد للحق، ولطالما كان الحقّ محارَبًا مظلومًا على مدى التاريخ...

*سلسلة مقالات عقائدية تجيب عن أسئلة الإنكار العقائدي التي يواجهها المجتمع الإنساني منذ بدأ الخلق.

 


[1]  سورة الأنفال، الآية 42

[2]  سورة القصص، الآية 47

[3]  عيون أخبار الرضا (ع)، الشيخ الصدوق، ج2، ص139

[4]  التوراة، سفر التثنية، الإصحاح الثامن عشر، الفقرتين 18 و19

[5]  التوراة، السفر الخامس

[6]  إنجيل يوحنا، الإصحاح السادس عشر، الفقرتين 16 و17

[7]  العهد الجديد، سفر الرؤيا، 19/15،11

[8]  سورة النجم، الآيتين 3 و4

[9]  سورة الأعراف، الآية 157

[10]  سورة الصف، الآية 6