مرجعية المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي

 

بعد وفاة الفقيه الشيخ راضي النجفي، انفرد بالمرجعية العليا الإمام المجدد السيد محمد حسن الشيرازي (ت 1312 هـ)  في ثلاثة عشر عاما مليئة بالأحداث السياسية، فاشرأبت الاعناق الى المرجعية، وتطاولت الابعاد شاخصة لهذا العبقري الرصين ، في حين تعصف بالنجف الاشرف عصابات الزكرت وميليشيات الشمرت مع هن وهن، فقرر السيد المجدد مغادرة النجف الاشرف الى سامراء عام (1300 هـ) مهاجرا في سبيل وحدة الامة، والحفاظ  على الإسلام من خلال  تحقيق التفاعل الروحي بين السنة والشيعة في العراق إذ عمدت السياسة التركية الهوجاء الى اثارة النعرات على لسان حكامها الجهلة في بغداد والقصبات العراقية تزمتاً وتعنتاً واستهانة  بالشعور العراقي  العام، ولدى اتخاذ المجدد الشيرازي (سامراء المشرفة) مقراً  للمرجعية العليا، تمكن من جمع الشتات وتوحيد الشمل، فعاد الشيعة والسنة إخواناً في كل شيء بمناخ حالم جديد، فلا نزعة طائفية ولا نزعة عنصرية، وعاشوا إخوة بسلام، وازدهرت سامراء بتشرفها بالإمامين العسكريين ، الإمام علي الهادي وولده الإمام الحسن العسكري(عليهما السلام)، وبلغت الذروة في الإسكان والاستيطان من شتى الديار والقصبات، إذ قذف المسلمون بأفلاذ أكبادهم باتجاه سامراء يمسون شطرها، ويهبطون ربوعها لغرض الدراسة، والتزود من معين أساتيذ العلوم العقلية والنقلية، بما يحقق لهم الآمال في التخصص الدقيق، مما أضطر معه المجدد الشيرازي الى بناء مدرسته العلمية القريبة من ضريح الإمامين العسكريين (عليهما السلام) وهي مدرسة ذات مساحة فارهة، ورواق للدرس العالي، وساحة مستطيلة  تشرف عليها عشرات الغرف للطلاب  من خلال الطابق العلوي والطابق الارضي، وهي موئلهم في التدريس والغذاء والراحة والنوم شبيهاً بـ (الأقسام الداخلية في عصرنا هذا)  وقد أعتدي على هذه المدرسة مرتين: الاولى بعد أحداث احتلال الكويت الدامية، وماجرت على العراق من ويلاتـ فاندفع الشباب العشوائي في سامراء عام (1991 م) الى تهديم الشرفات والأواوين والمقاعد الدراسية، وغرف الاسكان، ونهب المكتبة الكبرى في المدرسة، دون تفكير في أية مسؤولية، وكانت  تلك الحملة رداً على من قتل من المراتب والضباط لدى ما يسمى بالانتفاضة الشعبانية، والاعتداء الثاني كان بعد سقوط نظام الطاغية عام (2003 ) ضمن حملة التكفيريين ضد كل من ينتمي لأهل البيت (عليهم السلام) بصلة، عند الاعتداء التكفيري الاهوج على ضريحي الإمامين العسكريين في سامراء من قبل الارهابيين والمتعصبين لا كثر الله في المسلمين أمثالهم، فقد شوهوا سمعة الدين الاسلامي، واعتدوا على الحرمات والمقدسات ـ فإنا لله وإنا اليه راجعون.

وكانت مرجعية المجدد الشيرازي تمثل خطوة حضارية في توحيد كلمة الأمة في ضوء كلمة التوحيد، واختفت في سامراء والعراق بعامة كل مظاهر التميز الفئوي والمذهبي والعرقي والعشائري والطائفي، وعادوا أخواناً على سرر متقابلين.

ولم ترحب الدوائر الاستعمارية بهذا الانسجام بين المسلمين كيف لا؟ وشعارهم (فرق تسد) الذي اقره مؤتمر (سايكس بيكو) في القاهرة فيما بعد .. ومهما يكن من أمر فقد أوحت بعض السفارات الاوربية الى بعض عملائها من المعروفين بسفك الدماء والطائفية بوقت واحد ، واوعزت باغتيال ابن المجدد الشيرازي، فما كان من السفارة البريطانية والسفارة الروسية وسواهما، الا أن يوفدوا سفراءهم الى المجدد الشيرازي.

وانهم حاضرون ومستعدون لتنفيذ أوامره في القصاص من قتلة ولده، فأمتنع السيد أشد الامتناع عن سماع هذه الاكاذيب والدسائس التي أريد بها تفريق الصفوف، واستغلال الفرصة  لإثارة الفتنة، وقال بما مؤداه: أحد أبنائي قتل أخاه، ولا أطلب شيئاً، ولا دية، ولا تسليم القاتل إن عرف. 

وفي سامراء قابله الزعيم المصلح السيد جمال الدين الافغاني مخاطباً إياه بتلك الالفاظ التكريمية الراقية التي يحسن أداءها الافغاني بدبلوماسيته المعهودة، فهو سياسي خبير وداهية من الطراز الأول، وأراد حمل المجدد الشيرازي على تكفير ناصر الدين شاه فما أصغى لذلك حذر سفك الدماء، وقيام الفتنة، وعدم تكامل أدلة  ما أراد.

ولكن المجدد الشيرازي لم يقف مكتوف اليدين أزاء إعطاء الشاه امتياز (التبغ والدخان) الى شركة انكليزية، وعاثت الشركة فساداً في الأرض، واستملكت المساحات الكبرى والبنايات الفخمة، واستعباد الشعب الايراني، بشكل وآخر، وذلك لإدارة أعمالها التي تخفي وراءها أهدافاً أعمق من الأمر الظاهري، ورأى السيد المجدد بذلك تدخلاً سافراً في شؤون البلد الداخلية، وهو حاضرة إسلامية، وامتداد أخطبوط الدول المستعمرة لاسيما بريطانيا الى عمق الدولة، فأصدر فتواه بتحريم استعمال التبغ بكل أنواعه، وقد عرفت هذه الفتوى باسم (تحريم التنباك) فأمتنع الشعب الايراني أجمع من التدخين أو شراء الدخانيات حتى بلغ الحد أن طلب الشاه نفسه (نارجيلة) فقيل له: إنها كسرت مع جميع لوازمها تنفيذاً لأمر المجدد الشيرازي، وانهارت الشركة، وتبعثرت كل استعداداتها، وتحطمت جميع معداتها، وأعلن إفلاسها، وفشل المشروع البريطاني، على ان قاتل ناصر الدين شاه حينما اغتاله  بالمسدس خارج طهران عند مرقد (عبد العظيم الحسيني) قال خذها من جمال الدين الافغاني، كما أخبرني بهذا أستاذنا المعظم السيد محمد علي الحكيم (ت 1413 هـ).

ومن خلال ما تقدم يمكن إلقاء الضوء على الملامح العامة للمجدد الشيرازي، فقد كان صلب العقيدة متكلاً على الله في كل حركاته وسكناته، يضاف الى ذلك إغناؤه للناس على حد سواء، القريب والبعيد، القاصي والداني، العدو والصديق دون تفريق بين الطبقات الاجتماعية، ذلك سمح اليد، كثير العطاء، فأستهوى قلوب السنة والشيعة في سامراء، وملك أزمة القيادة، وعاشت سامراء أرغد أيام حياتها في العصور المتأخرة.

وينبغي الاشارة الموحية بأن منبر تدريسه في سامراء قد ضم عشرات المجتهدين ومئات الفضلاء، وآلاف الطلاب، وقد عرف بدقة المطالب العلمية، ونضج الفكر الفقهي والأصولي، وقد أحسنت (مؤسسة آل البيت عليهم السلام) في قم المقدسة بإدارة العلامة الجليل السيد جواد الشهرستاني دام علاه؛ بطبع تقريرات بحثه الخارج في (علم الأصول) في ثلاثة مجلدات مليئة باللباب من هذا العلم، وجامعة لشتات معالمه المتناثرة في مباحث فريدة متطورة، وقد ملئت بطبعها سروراً وغبطة، وشكرت السيد الشهرستاني على هذه اللفتة البارعة، وهي تزين مكتبتي على إختصارها وضغطها لمعالم الأصول المتشعبة.

وتوفي السيد الشيرازي في سامراء، وحمل نعشه على الأعناق الى النجف الاشرف، ودفن عند مدرسته ومسجده في أول باب (الشيخ الطوسي) المؤدي الى الصحن الحيدري الشريف.

المصدر: المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف مسيرة ألف عام للأستاذ المتمرس الأول في جامعة الكوفة الدكتور محمد حسين علي الصغير