الذكاء الاصطناعي .. رعب الإنسان وخذلانه أمام سطوة الآلة

 (إسراء الربيعي)

 

حاول الإنسان بما وهبه الله من قدرة خلاقة منذ أسحق العصور على تطويع ما حوله لمساعدته في عمله وفي معيشته الصعبة، فحول أغصان الأشجار إلى رماح، وصنع من الأحجار سيوفا حادة للذب عن نفسه في مواجهة الوحوش، ثم اكتشف النار واستخدمها لأغراض الطهي والتدفئة والإنارة البدائية، واكتشف العجلة للتنقل في الأماكن البعيدة، وكان تطويعه لكل هذه الأمور دليلا على مقدرته العقلية التي حولت هذه الأشياء الموجودة في الطبيعة إلى عوامل مساعدة لديمومته في هذه الحياة، فاليد تتكامل مع الفأس أو الرمح أو السيف في عملها، والقدم تتكامل مع العجلة في حركتها، وهكذا، وكان ذلك بمثابة الاستخدام أو التوظيف البشري الأول للتكنلوجيا، بوصفها وسيلة تعين الإنسان على إكمال ما ينقصه لمواجهة الطبيعة.

ومع تطور الحياة وتطور القدرات العقلية للبشر تطور الاستخدام البشري للتكنلوجيا، وبلغ هذا التطور أوجه حينما أصبح التفكير في استخدام العلم وطاقاته الهائلة لأغراض التكنلوجيا بهدف تحقيق سيطرة الإنسان المطلقة على الطبيعة وقوانينها، فالإنسان الذي حلم يوما بالطيران في الفضاء قبل قرون صار بإمكانه تحقيق هذا الحلم مع استخدام العلم ومنجزاته، بل صار بإمكان الإنسان أن يعبر أقطار السماوات والأرض، بما سخر له العلم من إمكانات التكنلوجيا الخارقة.

وقد بلغ هذا الاستخدام أشده بعد المنجزات الكبرى التي قدمتها الثورة الصناعية في أوربا، ولا سيما مع القرن التاسع عشر الميلادي وحتى يومنا هذا، حتى بات هذا الامتزاج بين العلم والتكنلوجيا مشكلا لنوع من القلق المرعب لما ستؤول إليه القدرات التي تتمتع بها الآلات التي يصنعها الإنسان بنفسه وإرادته من طريق قد ينتهي إلى تحكم هذه الآلات بمصير الإنسان، وبسعادته وبوجوده على هذه الأرض أصلا، لما تتمتع به هذ الآلات من قدرات قد تفوق قدرات الإنسان الذي صنعها.

ولعل ما يعرف بالذكاء الاصطناعي يمثل قمة ما وصل إليه هذا التزاوج المرعب بين العلم والتكنلوجيا في عصرنا الحديث، فما المقصود بهذا المصطلح وما مضمونه؟ ويكمن مدلول هذا المصطلح في كونه دراسة للسلوك الذكي عند البشر والحيوانات والآلات، وفي كونه محاولة لمعرفة السبل التي من خلالها يمكن استثمار مثل هذا السلوك على الآلات التي الاصطناعية التي بصنعها الإنسان، وليست هذه المهمة بالمهمة السهلة، بل هي أعقد في تفاصيلها من ارتياد الفضاء، والخروج من نظام الجاذبية، ومن مظاهر صعوبة هذا الاستثمار هو أن الإنسان لا يمتلك القدرة على معرفة طبيعة الذكاء البشري بطريقة علمية مدروسة، الأمر الذي يتعقد أكثر في معرفة طبيعة ذكاء الآلة الصماء التي تستطيع غلبة صانعها وقهره، وفي هزيمة ( غاري كاسباروف عام 1979م) بطل العالم بالشطرنج (اللعبة التي تمثل مجالا حقيقيا لمعرفة الذكاء البشري) حتى باتت مقولة (الكومبيوتر يجيد لعبة الشطرنج أكثر من الإنسان) مقولة لا يشكك بها أحد لكثرة الأمثلة التي يخسر بها الإنسان نزاله الرياضي أمام الآلة.

وإذا كان الذكاء الاصطناعي هو عملية محاكاة نظم الكومبيوترات لعمليات الذكاء البشري بهدف تحقيق أمر ما؛ فإن هناك الكثير من الاختلافات الشاسعة بين (التفكير المحاكى) والتفكير الحقيقي، وعليه فإن جهود العاملين في هذا المجال انصبت على معرفة الكيفيات التي تزود من خلالها الحواسيب بالمعرفة اللازمة وفي محاولة إيجاد الطرق التي يمكن من خلالها أن تكتسب هذه الحواسيب المعرفة تلقائيا رغم أن العديد من هذه المحاولات باءت بالفشل إذا ما استقنينا بعض التجارب الناجحة المتعلقة بالجداول الزمنية لهندسة المركبات الفضائية، وبعض التجارب المتعلقة ببعض أمراض الدم المعدية عند البشر !

وترتكز طرق اشتغالات الحواسيب الذكية على (البحث التجريبي الدقيق) من خلال تحليل أنماط البيانات التي يقدمها عالم الواقع الحقيقي، إذ يعد التعرف على تلك الأنماط جوهر تعلم الآلة، وعمله هذا شبيه إلى حد كبير بطريقة عمل المخ البشري في معالجته للأنماط الدوارة المستقبلة من العالم الخارجي والمعالجة داخل منظومة عصبية معقدة تشترك بها بما يقارب المائة مليار خلية عصبية تشترك جميعها لمعالجة أنماط البيانات الدوارة للخروج بمعطيات معينة موافقة لطبيعة هذه المنظومة العصبية المعقدة.

وقد ألقت هذه الطفرة الكبرى بالتقدم التقني بظلالها على كل مجالات الحياة حتى باتت الإنجازات المعرفية التي حققها الذكاء الاصطناعي تعيد صياغة مفاهيم البشر عن الحياة والوجود والكون لأن هذا التطور أصبح يتخذ مسارا آخرا يسير بالضد من الطبيعة بعد أن كان يسير بموازاتها وتكميلا لها، أوبهدي منها، فالموت مثلا وهو نتيجة طبيعية لهرم الخلية البشرية صار على سبيل المثال مرضا قابلا للعلاج، وكذا الحال بالنسبة للعقم الذي لم يكن قبل اليوم مرضا قابلا للعلاج.

إن خطورة تحويل العقل البشري من ملكة إنسانية إلى وسيلة للتحكم بالطبيعة هي أحد الأمور التي نجمت بسبب استثمارات مبادئ الذكاء الاصطناعي القائمة – بالأصل- على مبادئ العقل البشري الذي بفقدانه صفة الملكة الخلاقة سيتحول إلى وحش مرعب يريد أن يلتهم كل شيء أمامه، فالديناميت الذي اكتشفته الملكة البشرية الخلاقة لتأدية منافع عديدة كشق الطرق بالجبال تحول مع العقل العامل ضد الطبيعة إلى أسلحة فتاكة من الممكن أن تبيد كل سكان الأرض في لحظة جنون يرتكبها سيأسي أو ديكتاتور دون النظر إلى عواقبها.

وهكذا فإنّ التقنية الذكية التي دخلت كل مجالات حياتنا غيرت الكثير من وعي البشر ومن عاداته، وحتى من المعنى الذي يبحث عنه او يجري وراءه الإنسان في هذه الحياة، وباتت هذه التقنية تدخل في صناعة الآراء والمواقف والمعاني التي تريد تعزيزها هذه الآلة / الروبورت المدار من مؤسسة أو جهة لها مصالح وأهداف ومرام معينة. بمعنى آخر فإن الالة الذكية أضحت تهدد الوجود القديم للبشر والناس بوصفهم ذوات لها إراداتها وحريتها وقابلياتها الثقافية، وذلك من خلال سعيه الى إقامة مجتمعات أخرى بوعي تصنعه هي بذاتها وبإرادات أخرى تصنعها هي أيضا، وهكذا دواليك فيما يطلق عليه اليوم من تسمية الانسان المدمج الذي هو مزاج الطبيعة والذكاء الاصطناعي.

وربما كان أخطر ما يطرحه تضمين الآلة لتحل محل الإنسان هو هذا الارتباك في العلاقة بين الآلة والإنسان، والإنسان بأخيه من جهة هو ذلك التيه الوجودي الذي تسببه التقنية اللافاعلة في البناء الإنساني، التي لا تنطلق من منطلق يحكمه الترشيد المستند إلى عبودية الأنسان لله وانشداده إلى يوم تعرض فيه أفعاله في شريط معلوم لا تخفى منه خافية حتى وإن أكسبه الله حرية القرار والاختيار في هذه الحياة التي أوصلت الإنسان إلى مرحلة يخلق فيها شيئا ويصنعه ثم يخشى منه ومن نتائجه.