رمضان والقرآن.. التكايا والخلوات الرمضانية في أفريقيا

 بقلم جلال النجفي

كان القرآن وما يزال هو الكتاب الأول في الثقافة الإسلامية، لأنه الرابط الأقوى الذي يشد هذه الثقافة إلى بعضها على الرغم من اختلاف الذوات والأعراق والطوائف التي دخلت الإسلام  واندرجت ضمن قيمه الأخلاقية وأعرافه وتصوراته عن الحياة وعن الآخرة وعن الوجود وما يتحكم به من قوى غيبية حددها القرآن الكريم الذي لا يختلف اثنان ضمن هذه الثقافة على كونه كتاب الله المنزل على رسوله الكريم والمبلغ بالوحي على لسان نبينا الأعظم، والمنقول إلينا بالتواتر، والمحفوظ ضمن نظام معروف بواسطة المصحف الشريف الذي هو مصحف واحد بين مشارق الأقطار الإسلامية ومغاربها.

ولذلك عظمت منزلة القرآن في النفوس، وبات حفظه ومعرفة أسراره، وطرق تعبيره وبيانه بات ذلك من الأمور التي تشرف المرء داخل قومه في هذه الثقافة وتعلي من شأنه وتعزز منزلته الاجتماعية قديما وحديثا، ففي المجتمع الإسلامي يوقر العارف بأسرار القرآن، وفي الصلاة يقدم الأحفظ لآياته الكريمة، حتى بات حفظ القرآن شهادة يعتز بها المسلم ويفتخر أشد الفخر، وهذا مما هو معروف في كل المجتمعات والأقطار الإسلامية في آسيا وأوربا وأفريقيا، وفي كل قارة تكثر فيها الجاليات الإسلامية المعروفة باعتزازها بثقافتها الخاصة.

وقد كانت الخلاوي (جمع خلوة) ومعناها أن يختلي معلم القرآن الكريم بمجموعة من التلامذة الصغار في إحدى زوايا المسجد أو في إحدى التكايا الملحقة به ليعلمهم مبادئ القرآن وطرق تجويده وليساعدهم بأساليب مختلفة على حفظه عن ظهر القلب، ولذلك كانت هذه الطريقة هي أحد أهم وسائل تلقي المعرفة في أفريقيا من شمالها إلى شرقها وغربها ووسطها.

 وقد كانت لهذه العادة التي يقبل عليها الأهالي والساكنون في هذه المناطق مجموعة من المزايا والحسنات التي تشد الإنسان المسلم إلى ثقافته الإسلامية الأصيلة، فضلا عن كون هذه الخلوات التي يطلق عليها الأفارقة (الخلاوي) والتي تنشط كثيرا في شهر رمضان المبارك، وفي نهاره على وجه التحديد، مكانا للاجتماع والتخطيط في سنوات الاحتلال الفرنسي والايطالي والبلجيكي والانكليزي لأفريقيا، للتفكير بمقاومة هذا المحتل وثني إرادته عن طريق التمسك بثقافة القرآن وبتعاليمه التي تحث على الارتباط بالأوطان والدفاع عنها عند تعرضها للغزو والاحتلال من الأعداء الذين يريدون بها شرأ .

وقد سجل الرحالة الأوربيون أثناء مشاهداتهم لنمط الحياة في أفريقيا الإسلامية كثرة هذا الخلوات قرب المساجد ونشاطها فترة شهر رمضان المبارك في المساجد وحتى في المناطق الصحراوية التي يتخذها الأهالي مناطق للرعي عند نزول الأمطار، إذ يسجل الرحالة الألماني (هاينرش باخ) سنة 1850 ميلادي مثلا امتداد هذه الخلاوي في الصحراء العربية الكبرى والحدود المتاخمة لها من الصومال وكينيا شرقا إلى موريتانيا والسنيغال غربا مرورا بمالي وتشاد ودولة النيجر وغيرها من الدول غير العربية التي دانت بالإسلام في أفريقيا، وقد سجل هذا الرحالة أن القرآن الكريم لا يفارق هؤلاء الناس خصوصا في شهر رمضان رغم حرارة النهار في مثل هذه الدول المعروفة بجفاف مناخها واشتداد درجات الحرارة على مدار السنة .

ويعرف نظام (الخلوة) التعليمي نظاما صارما في تلقي أطر المعرفة القرآنية إذ يحتم على التلاميذ قبل سن العاشرة حفظ القرآن الكريم كاملا عن ظهر القلب قبل هذا السن، وغالبا ما ينجح في الاختبار الصعب الطلبة الأذكياء الذين يجعلون من شهر رمضان الذي يساعدهم فيه الصوم على شدة التركيز وتفتق الملكات الحسية عند الأطفال على الحفظ والتلاوة بشكل صحيح، أما الطلبة الأقل ذكاء فكان يكتفى منهم بحفظ أجزاء معينة من القرآن الكريم على أمل أن تحفظ الأجزاء الأخرى منه في رمضان القادم في السنة التالية أو في السنوات التالية، وهكذا فإن شهر رمضان، وهو شهر القرآن الذي تنزل في ليلة القدر منه على صدر نبينا الحبيب كان وثيق الصلة عند الأفارقة المسلمين بشهر رمضان الذي يعد مجيؤه كل عام مناسبة لا تعوض للحفظ والتلاوة السليمة ومعرفة ما يتعلق بعلوم القرآن.

وتبلغ أعداد التكايا والخلاوي في البلدان الأفريقية عددا لا يضاهى قياسا بغيرها من دول العالم الإسلامي، ففي دولة (نيحيريا) وحدها وهي دولة لا يمكن القول عنها دولة إسلامية لكثرة السكان المسيح فيها ولكونها دولة تتبع نظاما سياسيا علمانيا، ومع هذا فقد زادت في هذه الدولة الأفريقية وحدها أعداد الخلوات القرآنية على المائة ألف خلوة، فما بالك بالبلدان الأفريقية ذات الطابع الإسلامي كمالي والسنغال وموريتانيا ودولة تشاد التي يتحاوز عدد الطلبة فيها ممن يتلقون معارفهم الإسلامية على طريقة (الخلاوي القرآنية) على الثلاثة مليون تلميذ، والعجيب أن فرنسا التي كانت تحتل تشاد لم تبني في هذه الدولة المترامية الأطراف سوى ثلاثة مدارس فقط في طول البلاد وعرضها!

وهذه الخلاوي القرآنية على موعين ، أولهما النوع المستقر قرب المساجد وهذا النظام معروف في المدن الأفرقية الكبرى، ونوع آخر يسمى الخلاوي المتنقلة ويعرفه أهل البراري والصحراء التي تشكل جزءا كبيرا من نظام الحياة في أفريقيا المسلمة، وكانت عادة الآباء الذين يأتون إلى هذه الخلاوي أن يقولوا للمعلم ( أعطيتك ابني في الدنيا فاعطني إياه بالآخرة) أي علمه ما في القرآن من حكمة ومن خلق ومن تهذيب روحي تجعل الابن كنزا لأبيه يوم لا ينفع مال ولا بنون، ويطلق معلمو الخلاوي على الطفل المتعلم إذا كان من القرية أو المدينة نفسها لقب (الحوار) وهو ابن الناقة الذي يلازمها كما يلازم التلميذ استاذه، أما إذا كان الطفل المتعلم من خارج القرية فيطلق عليه لقب (المهاجر) على ما في هذه المفردة من معاني موحية ومذكرة بصدر الإسلام الأول في كفاح معتنقيه ضد جبابرة قريش .

أما وسائل التعليم في هذه الخلوات فهي بدائية جدا، فأول أديم يكتب عليه الطفل هو الرمل الموجود في فناء المسجد حتى يتقن كل الحروف هجاء وكتابة عن طريق استخدام سبابته، ثم ينتقل إلى الكتابة على (اللوح) الذي يتبرك به من خلال فركه بنواة التمر، واللوح أشبه بالسبورة الصغيرة سهلة الحمل ويستخدم للكتابة عليها نوع من الحبر القابل للمحو، وبعذ أن يتقن الطلبة كتابة الحروف يدخل مرحلة كتابة سور القرآن ابتداء من (سورة الفاتحة المباركة) والمعلم يصحح ما يملي على طلبته من آي القرآن، ومن يصل إلى مرحلة (الختم) يقام له احتفال داخل الخلوة وداخل القرية لأنه أصبح قادرا على كتابة القرآن كاملا عن ظهر قلب. ومن العجيب أن من يحفظ القرآن من الأفارقة سيتفوق في دراسته الأكاديمية اللاحقة.

وهناك داخل هذا النظام التعليمي الكثير من المظاهر التي تعين طلبة العلم على الحفظ والتلاوة كجوائز التكريم البسيطة والتشجيع بالقبول مجانا في المدارس الحكومية،والتي تؤكد قيمة هذا الكتاب العظيم في نفوس أتباعه، وقد كان شهر رمضان على الدوام شهر التعبد بآياته وشهر التحصيل المعرفي لآياته الكريمة في كل الأمصار الإسلامية.