الإصلاح.. التحدي الاكبر للانسانية

الباحثة غانيا ضرغام

جاء في لسان العرب: "الإصلاح نقيض الإفساد، وأصلح الشيء بعد فساده "أقامه"، وفي المحيط "الصلاح الاستقامة"، الخلو من الفساد والعيب، و"الإصلاح: التقويم والتغيير نحو الأَحسن والأرقى، بالتالي يتبين من هذه التعريفات اللغوية إقران الإصلاح والصلاح بنقيضيهما اللذين هما الإفساد والفساد، والتأكيد على أن الإصلاح هو تقويم نحو الأحسن، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار الإصلاح بمثابة إرادة وفعل تحويليين من وضع معين إلى وضع مغاير أفضل من سابقه، من جهة تثبيت أكبر قدر من المصالح العامة ورفض أكبر قدر من المفاسد، بما يعود بالنفع على المجتمع ويحقق نهضته وتبويئه مكانة معتبرة ضمن المجتمعات النافعة، كما ان الإصلاح غير التغيير الذي هو إرادة وفعل تحويليين من وضع معين إلى وضع مغاير، بغض النظر عن قيمة هذا التحول، سواء إلى الأسوأ أو إلى الأفضل.

يعتبر مفهوم الإصلاح، من المفاهيم المركزية التي لم يتجاوزها الفكر العربي المعاصر منذ بداية القرن 19م، حيث يعاد طرحه إلى جانب مفاهيم أخرى كلما طرأت تحولات، استدعت تدخل فئة علماء الدين أو المثقفين لإعطاء موقف أو إبداء رأي في هذه النازلة أو تلك، وفي المرتبة الأولى يعتبر الاصلاح النفسي القاعدة الأساسية التي يستند عليها الاصلاح ككل، فهو ينعكس بشكل مباشر على الفرد نفسه، ثم على دائرته الاجتماعية القريبة مرورا إلى الحياة العملية ووصولا إلى المجتمع عموما.

وكان تحدث الشيخ سعد الله خليل عن الاصلاح النفسي: "إن عملية الصلح النفسي هي من أعقد الأمور وأصعبها باعتبارها تدخل في عمق المسائل الخاصة التي تتداخل فيها كل مقومات بناء الإنسان وبنيته التكوينية والتربوية والاجتماعية والفكرية والثقافية وغيرها بما في ذلك عامل الزمان والمكان، بالتالي فإن لهذه المقومات ملامسة مباشرة للعقل والقلب والنفس والاحساس والشعور والعاطفة ومخزون القابليات الايجابية منها والسلبية".

وأضاف الشيخ خليل: " من ناحية أخرى فإن الحديث عن اصلاح النفس إنما هو عملية بحث وعلاج لخلل قد طرأ عليها وفساد وقعت فيه، وإلا لما احتاجت إلى اصلاح وهذا يجرنا للحديث عن نشوء قابليات وتشكيل قناعات ووالدة مشاعر وأحاسيس وموت كثير من القيم والمعايير، وعملية اصلاح النفس ليست عملية تطهير أو تنظيف لجسد دنسته بعض القذارات المادية بصبة من الماء أو تعفير لما هو قائم من تراكم بقليل من التراب كما يتوهم البعض, بل هو عملية ترويضية مبرمجة ومشروطة باعتبارها تحدي".

أيضاً نوه الشيخ أن: " جهاد النفس من أجل السيطرة عليها والتحكم بها هو العنوان الأبرز للسلوك الإنساني"، وأضاف: " فالنفس الانسانية أشبه ما يكون بالساحات المجتمعية التي تتكون من مجموعة القوى السياسية المتنوعة والمختلفة التي تتصارع فيما بينها، وفي النهاية يفترض أن تكون الغلبة فيها للقوى المؤمنة والصالحة التي تنهض بالمجتمع نحو التغيير الأمثل والأفضل، فالنفس الإنسانية هي ساحة تسيطر عليها مجموعة من القوى, "قوى الرحمن وقوى الشيطان" وفي النهاية لابد لقوى الرحمن أن تسيطر بقوة على ساحة النفس لتجعلها نفساً مطمئنة منزوعة من أسلحة الشيطان التي تأمر الانسان بالسوء وتدفعه نحو تفعيل الغرائز والاهواء وبالتالي انحرافه عن الصراط المستقيم الذي رسمه الله".

ودل الشيخ بمثل للإمام علي (عليه السلام) في قوله: "وتزعم أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم أجمع".

نذكر من الطّرق التي تساهم في إصلاح النفس:

-إصلاح النّفس عن طريق الخطوات السهلة، فقد يبتدئ الإنسان بإصلاح نفسه بكلمة طيبة يقولها لمن أساء إليه، وتكون تلك الخطوة السهلةُ طريقاً للوصول إلى منهج إصلاح النفس.

-النظر في قصص الناجحين، وتتبع الأسباب التي أدت إلى نجاحهم، ووصولهم إلى القمم.

- مكافأةُ النّفس الإنسانية على ما تقوم به، فكلّما كافأت نفسك على ما تقوم به من الأعمال كلّما شكّل ذلك حافزاً لها، لمزيد من العطاء، والإصلاح، والتغيير نحو الأفضل.

- التفكير الدائم في الإصلاح عن طريق الخواطر، والأحلام القابلة للتحقق، وقد تكلم الإمام ابن القيم عن أهمية الخواطر، وكيف تتحول بفعل الأفكار إلى ذاكرة ثابتة في العقل، ثم تصير إرادةً، ثمّ يتم تنفيذ تلك الإرادة عن طريق الجوارح.

- الدعاء، فالدعاء هو من أقوى طرق إصلاح النفس الإنسانية، ويكون هذا الدعاء أقوى في حال خلوه من موانع الاستجابة، مثل الظلم، أو كثرة الذنوب، أو الغفلة التي تطغى على القلب.

-العناية بالنظافة النفسية للفرد، مشابهة بالنظافة الخارجية له، فيجب تنظيف النفس من الغيرة والكراهية والحسد تجاه الغير، والسعي لإرضاء الناس المحيطين به، تناسباً بالحفاظ على كرامته وقيمته الاجتماعية.

ومن الأساليب التي يمكن اتباعها لإصلاح النفس الأمارة بالسوء نذكر:

- قيام الإنسان في بداية اليوم بمشارطة نفسه على ترك السيئات، والتزام الطاعات.

- مراقبةُ الإنسان نفسه باستمرار، وأن يقيّم إلتزامها بما اشترطه عليها، والنظر إن كانت قد أوفت بذلك أم لا.

- محاسبةُ الإنسان نفسه على أفعالها، وأقوالها.

- مجاهدة الإنسان نفسه على ترك السيئات، وإلزامها باتباع طريق الهدى، والطاعة، وأن يجبرها على مخالفة الهوى.

وننوه أن لمسيرة الإصلاح بوصلة تحدد بمحددين أساسيين: أولا اعتبار الحال الراهن للواقع المراد إصلاحه، وثانيا اعتبار مآل العملية الإصلاحية المراد تنزيلها على هذا الواقع، بالتالي على أساس هذين المحددين يمكن تجلية غاية وأثر الفعل الإصلاحي، وبالتالي تقييمه وتقويمه، فالغاية تقاس بمآل العملية الإصلاحية عموماً من خلال السعي العملي لاستكمال متطلبات الإصلاح، والأثر يقاس بمدى فاعلية أدواتها راهناً من خلال حفظ ما تبقى من المكتسبات الإصلاحية، واستمرار الفعل في كسب مساحات أخرى لتثبيت الأثر الإصلاحي عليها، وتقييم الفعل الإصلاحي يتم عبر النظر إلى مدى فاعليته في حفظ ما تبقى من مساحة الصلاح المكتسبة في المجتمع.

خلال حديث خاص لمركز الاعلام الدولي في العراق قالت السيدة ضحى مهنا: "نحن خلقنا الله بشراً لسنا ملائكة، بالتالي هناك صراع في داخلنا بين الخير والشر، بالعودة الى تربية الفرد وما أعطته اياه الاسرة وبالأخص الوالدين للفرد فإنه يعتبر العامل الأول لتوجيه النفس إما إلى الخير او الى الشر، هنا تكمن المسؤولية الاولى على عاتق الوالدين والجو الأسري داخل المنزل الواحد، حيث يستطيع الفرد اكتساب الاصلاح الذاتي او النفسي من عائلته ذلك خلال مجموعة المبادئ والقيم الاجتماعية التي تحفظ كرامة الفرد مكللة بحفظه لكرامة الاخرين ومصالحهم المرتبطة به، بالتالي هذا يكون اصلاح ولود وخلاق بين كل حدث واخر، او مع كل موقف انساني او اجتماعي وآخر، ومن وجهة نظري هذا النوع من الاصلاح هو أهم الأنواع المرتبطة به، لأنه النواة الأساسية لانبثاق ثقافة الاصلاح عموما في جميع المراحل الحياتية او المواقف العملية والاجتماعية، فسلام على من تربى وربى على مفهوم الاصلاح، لأنه دون شك هو الاقرب الى الله الذي أمرنا بالاصلاح".

ونذكر أن تقويم الفعل الإصلاحي يتبين من خلال المتابعة المستمرة لمدى تقدم مسيرته في استكمال ما تبقى من متطلبات الإصلاح على طريق توسيع أقصى لمساحته، وتقليص أقصى لمساحة الفساد، فالعملية الإصلاحية مسيرة ضمن مراحل، وهي تقتضي جدولة للمطالب الإصلاحية، بما يخدم مقصود الإصلاح، وهذه الجدولة تهتدي بموجهين أساسيين.

الموجّه الأول: الحفاظ على المكتسبات الإصلاحية بغض النظر عن حجمها أو قيمتها، والحيلولة دون الرجوع إلى ماضي فساد قد ولى مهما بلغ حجم هذا الفساد، وهذه المهمة تعتبر ضرورية في العملية الإصلاحية الجاري تداولها، لأن الفساد ذو طبيعة متعدية، وبالتالي قد يكتسح كل مساحة لا يلقى فيها مقاومة له.

الموجّه الثاني: الاتجاه نحو اكتساح مساحات جديدة للفساد، والسعي الحثيث نحو تثبيت دعائم الإصلاح الضرورية لحفظ قيم المجتمع الكبرى وحرية أفراده وكفاياتهم الاجتماعية، وحفظ ماله العام، وتطوير أهليته الفكرية والعلمية والثقافية، وإفساح المجال للحريات العامة، ومنها الحق في التنظيم والتشكل لكل التعبيرات المجتمعية المعتبرة المنصتة إلى نبض المجتمع.

ولابد من التطرق الى مفهوم اصلاح ذات البين الذي هو قطع النزاع بين المتخاصمين سواء كانت الخصومة قولية، كالتحدث على بعضهم بالسوء والشتم، أو فعلية كالضرب.

 ومن امثلة إصلاح ذات البين:

- الذي يكون بين الإخوة والأقارب المتخاصمين، فقد يتخاصم الأقارب عند توزيع الميراث أو في المناسبات كالأفراح، بالتالي يجب الإصلاح بينهم بالمعروف، ومحاولة عدم توسيع ذلك الخلاف، لما سيؤديه لقطع الرحم، لأن في بعض الخصومات قد يموت أحد المتخاصمين قبل أن يتم الإصلاح، فيندم الشخص الآخر، ويعرف بأن العمر قصير وأن الدنيا فانية وأن الخصومة كانت خطأً فادحاً، ويتمنى لو أنه اصطلح مع أخيه قبل موته.

- الإصلاح بين الزوجين المتخاصمين، سيما الذين لديهم أطفال والصلح فيما بينهما بما يقتضي حفظ كرامة كل منهما يعتبر اعادة اعمار عائلة وحماية الاطفال من مخاطر تمزيق الأسرة، اضافة للعودة الى أجواء المحبة والاحترام التي اصلا جمعت هذه العائلة.

- الصلح بين المتخاصمين بالانسانية، سواء كان الخصام بين دول أو قبائل في نفس الدولة او حتى بين الجيران، كأن يحصل نزاع بين قبيلتين بسبب قتل غير متعمد، فيجب الإصلاح بينهما، حتى لا يتفاقم النزاع ويؤدي لمزيد من الضحايا.

وكان لعلم الموارد البشرية اهتمامه الخاص بموضوع الاصلاح الاجتماعي ككل، حيث نوه الاستشاري ومدرب ومطور الموارد البشرية إبراهيم محرز في حديث خاص لمركز الاعلام الدولي في العراق:

ان التنمية البشرية كعلم ونظريات وقواعد وأسس ترتكز على الإصلاح الايجابي الذاتي للفرد في كل مجالات الحياة "عمل، مشروع، دراسة، اسرة، علاقات، عاطفة، تفكير.."، فقديماً كانت التنمية البشرية تضع أسس وقواعد لانتقاء موظفين وتدريبهم لاكتساب خبرة وتحقيق أهداف الشركة وزيادة الانتاجية، وحديثا أصبحت من اولويات تنمية الموارد البشرية تدريب المورد البشري وتطوير تفكيره ايجابيا والعمل على تنمية تفكيره بشكل ايجابي لدى كل فرد حتى يصبح مورد بشري يعمل ويتعامل ويفكر ويخطط بروح الفريق لتحقيق المصلحة العامة التي تعود على الجميع بالخير والأمان، والعمل على الحفاظ على هذا المورد البشري المدرب وتنمية قدراته الانسانية والعقلية من خلال دمجه بسوق العمل ورؤيته لنتائج اي عمل فيه سرقة او غش او خداع او مخالفة للقوانين التي تحمي الجميع في اي عمل، وبناء مبدأ ان الفريق كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعت سائر الأعضاء لمساعدته، وارتكزت التنمية البشرية على وضع الفرد في دورات تدريبية حديثة تعتمد على المؤثرات التدريبية لتحفيز قدراته وتطويرها وهذه الأمثلة تمثل نتائج العمل اذا تابعنا بروح الفريق وايجابية ووفق الانظمة والقوانين لتحقيق أهداف الشركة، وايضا تعطي نتائج سلبية قاتله ومؤثرة ومعيقة له ولفريقه ولمجتمعه وعائلته اذا شذ او سرق او خالف القواعد من فساد بكافة اشكاله".

وأضاف محرز" فهنا تبين التدريبات التنموية انه يسرق أطفاله واحفاده، ونخل بتوازن العمل الايجابي المتطور دوما الذي يزيد الإنتاج من خلال تدريب كل عضو بفريق العمل يعمل على تحقيق أهداف الشركة او المشروع او المجتمع بالتعاون مع الجميع وفق القوانين ووفق برنامج له قواعد كمكافأة وترقية كل من يعمل, ومحاسبة وعقوبة كل من يقصر، فتنشأ لدى الأفراد قاعدة اما ان تكون معاق ومستبعد وضار وأما ان تكون نافع ومفيد وايجابي وفعال ولك حوافز ومكافئات مستمرة وترقية، بالتالي نكون قد كونا بناء انساني ايجابي من اهم أهدافه العدالة الاقتصادية والاجتماعية وتطوير المجتمعات للأفضل".

وأكد محرز بما يخص جانب الإصلاح: "انه في علم الموارد البشرية يبدأ بالتدريب الذاتي لتنمية القدرات المنتجة، وإصلاح الذات البشرية تبدأ من لحظة التدريب والتطوير الذاتي المستمر وتطوير التفكير باستمرار ورؤية النتائج الايجابية على مستوى المجتمع، وبالتالي فإننا نستطيع من خلال علم تنمية الموارد البشرية تحفيز الأفراد بإعطائهم تدريبات مستمرة تشكل لهم عادة تدريب ذاتي وبالتالي شخص ايجابي في مجتمعه, وكم نحن بحاجة للايجابيين في هذا العالم، والتدريب والتطوير والإصلاح للأفراد هو من حوافز تنمية القدرات البشرية العملاقة الايجابية، بالتالي نجاح اي مشروع او عمل أو اسرة او علاقة ايجابية لان علم الموارد البشرية يصنع موارد بشرية مبدعة تستحق الدعم المادي والمعنوي لتنتج باستمرار".

أيضاً نوه محرز: "يقدم علم تنمية الموارد البشرية للأفراد عالم متعدد القنوات وآفاق عمل متنوعة وجميلة, ويقدم بناء موارد بشرية قادرة على الإنتاج والتطوير المستمر الايجابي على مستوى عائلاتهم وعملهم ومجتمعهم، وهذا يعد إصلاح متكامل بحد ذاته، وتنمية الموارد البشرية الايجابية تدخل في كل المهن والتخصصات والمشاريع مهما كان حجمها فلا يمكن ان ينجح اي عمل مهما كان صغير أو كبير بدون تنمية موارد بشرية تفكر بإصلاح اي خطأ وتحويله إلى إيجابية وقيمة مضافه للمجتمع، واقترح ان يتم توسيع نطاق وصلاحيات تنمية الموارد البشرية لكل مجالات الحياة وان تكون هي الترخيص الحقيقي للنجاح لأي طبيب وصناعي ومهني وعامل ورائد اعمال ومدرب ومهندس..، بالتالي نشكل مجتمع مثل خلية النحل يعمل بشكل متكامل لبناء إصلاح ذاتي ومجتمعي ايجابي باستمرار مما يؤدي إلى تحقيق عدالة اقتصادية واجتماعية، فلا يمكن بناء مجتمع ناجح بدون موارد بشرية تفكر وتخطط وتعمل على إصلاح الفرد نحو الأفضل ودعمه ماديا ومعنويا من جميع النواحي".