الصِّيامُ في خُطبةِ الزَّهراء(عليها السلام)
في جانب من خطبتها المباركة تناولت مولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) جانباً من فلسفة تشريع العبادات حيث قالت:"... فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر ، والزكاة تزكيةً للنفّس ونماء في الرزق ، والصيام تثبيتاً للإخلاص..."
ومحل الشاهد في كلامنا، ونحن نعيش أجواء هذا الشهر الكريم، أن السيدة الزهراء (عليها السلام) تؤكد وجود صلة وثيقة بين الإخلاص وفريضة الصيام.. و المُراد بالإخلاص هو أن يكون الهدف الأسمى من وراء العمل فكراً وسلوكاً وتوجهاً هو الله تعالى وان الإسلام بمفهومه العام إنما هو الإخلاص لله بالعمل بطاعته، واجتناب معصيته وذلك واجب على كل متعبد، ونجد في القرآن الكريم وروايات النبي الأكرم وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) أن عنصر الإخلاص في أعلى مراتب الأهمية فهو دعامة أعمال الإنسان التي لا يُقبل العمل إلا بها.
وهذا ما بينه الفقهاء في رسائلهم العملية في تعريفهم للنية :((هي أن يُقصد الفعل ويكون الباعث إلى هذا القصد أمرُ الله تعالى من دون فرق بين أن يكون ذلك بداعي الحب له سبحانه أو رجاء الثواب أو الخوف من العقاب ويعتبر فيها الإخلاص)) فإذا لم يتوفر جانب الإخلاص بطل العمل وهو من أهم الخطى في عملية التربية والتهذيب والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى.
وتختلف درجات الإخلاص باختلاف درجات الإيمان وفي ذلك يقول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ((بالإخلاص تتفاضل مراتب الإيمان))..ولجميع العبادات تقريباً مظهر حركي خارجي.. فالصلاة والحج والخمس والزكاة والزيارة وقراءة القرآن والأدعية لا تنفك - غالباً - أن تكون بمرأى الناس ومسمعهم مما قد يجعل (النفس الأمارة بالسوء) أن تُبتلى بالرياء والتظاهر بالخشوع مع العجب بالعمل وكل هذه الأمور تفسد العمل العبادي وتحبط ثوابه بل وقد توجب غضب الله وعقابه..
أما الصيام فأبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص لأنها عبادة يمارسها العبد دون أن يكون لها واقع خارجي واضح أمام الناس فالفرد يعمل ويجالس الناس ويؤدي التزاماته المختلفة وهو صائم لا يكاد يعلم بصيامه إلا رب العالمين وهذا في درجة عالية من الإخلاص والتوجه له سبحانه وتعالى ولهذا ورد في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به) بمعنى أن الله وحده هو القادر على إحصاء ثواب الصيام المكتوب للصائم، دون الملائكة واللوح والقلم والعادّين عموماً.
ومن هنا كان الصوم عظيماً وجُنةً من النار لما فيه صفاء القلب، وطهارة الجوارح وعمارة الظاهر والباطن، والشكر على النعم والإحسان إلى الفقراء، وزيادة التضرع والخشوع والبكاء، وحبل الالتجاء إلى الله، وتخفيف السيئات، وتضعيف الحسنات فلنحرص على أن نكون ممن منحه الله هذه الجائزة العظيمة.. وفوق هذا كله ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التوبة:72)، وهنا بعض التأملات حول بعض محاور هذا الشهر الكريم..
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته التي بيَّن فيها فضل شهر رمضان المبارك‘‘ أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ،، فهل هذا يتحقق للجميع أم أن الأمر غير ذلك ؟ في واقع الأمر أن هذه العبارة تخص من أدى هذه الفريضة حقها وهو الورع والإخلاص كما أشارت الزهراء (عليها السلام) غير أن هناك-مع شديد الأسف- من يقضي لياليه يلعب (المحيبس) أو ينقطع إلى مشاهدة برامج التلفزيون التي لا طائل منها أو قد يقضي وقته بجلسات فارغة من ذكر الله فهل تكون أنفاسه تسبيحاً؟!..ولو نام الصائم دون حاجة للنوم وقد يفرط في حقوق عائلته وعمله.. فهل نومه عبادة ؟!! يقيناً لا.. وفي المقابل هناك من العبادات المستحبة ما لو أجهد الفرد نفسه فأنه لن يدرك قسماً كبيراً منها لكثرتها فإذا تعب من العبادة وخلد إلى النوم كان في عبادة أو قد يكون الفرد صاحب عمل متعب لا يقوى معه على كثير من العبادات المستحبة فتفوته بعض الأعمال والأوراد المندوبة فمن أجهده العمل الحلال كان نومه عبادة.. وخلافاً لذلك فلا الأنفاس تسبيح ولا النوم عبادة
•قال الإمام الصادق(عليه السلام) (الدُّعَاءُ يَرُدُّ الْقَضَاءَ بَعْدَمَا أُبْرِمَ إِبْرَاماً فَأَكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ مِفْتَاحُ كُلِّ رَحْمَة وَنَجَاحُ كُلِّ حَاجَة وَلاَ يُنَالُ مَا عِنْدَ اللهِ عزَّ وَجَلَّ إِلاَّ بِالدُّعَاءِ وَإِنَّهُ لَيسَ بَابٌ يُكْثَرُ قُرْعُهُ إِلاَّ يُوشَكُ أَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِبهِ)..وما أكثر الأدعية والأذكار الواردة في هذا الشهر الكريم!!،وللصائم دعوة لا ترد كما ورد في الأثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهنيئاً للمبادرين بالدعاء لما تعززه من صلة بمحض الخير والعطاء.. كما أنَّ لله تعالى في كل ليلة عتقاء من النار لمن أتم الصيام، وأدّى القيام، وأكثر من الحسنات، وتزود من الطاعات.. وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو علمتم مالكم في شهر رمضان لزدتم للّه تعالى ذكره شكرا )
•الموت يقين لا شك فيه، ولسنا سوى ضيوفاً عابرين مهما طال العمر ولو تأملنا حولنا لافتقدنا وجوهاً قد لحقت برحمة الله في هذا العام، كما نجد البعض قد أصابهم مرضٌ منعهم من الصيام، وأمتد بنا العمر بعافية ونلنا-برحمة الله وتوفيقه-شرف الصيام، فكم من رمضانٍ مضى ونحن غافلون، فلو قُدِّر أن هذا هو آخر رمضان لنا، فماذا نحن فاعلون؟!
صادق مهدي حسن