حُسن الجوار بين الماضي والحاضر

"لاشك ان الشرائع السماوية عامة والشريعة الاسلامية السمحاء خاصة جاءت لتنظيم العلاقات الشخصية والأسرية والمجتمعية ووضعت لذلك أحكاماً وقيوداً وآداب، وفي نظرة سريعة للقرآن الكريم والسنّة الشريفة والروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام نجد بوضوح ملامح تلك العلاقات وحدودها، وإبراز أهميتها وفاعليتها في بناء الأسرة والمجتمع".

بهذا التمهيد ابتدأ الشيخ حمزة الفتلاوي، حديثه عن مسألة باتت تأخذ حيزاً كبيراً من الاهمية في كافة الاوساط وهي مسألة حسن الجوار، وأكمل قائلاً" من المواضيع التي تركت لها الشريعة الإسلامية مجالاً واسعاً ومساحة كبيرة هي منظومة حسن الجوار، وحسن الجوار مفهوم اسلامي ينبغي أن نقف على مبادئه وأصوله ونفهم حيثياته فهماً واعياً ايجابياً.

مبيناً" ان هذا الفهم الواعي لمسألة حسن الجوار لا يتم إلا من خلال الاطلاع على النصوص الشرعية الصحيحة والتي اعتبرتهُ من مقتضيات الأخوّة الاسلامية، وخير دليل عل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله (الجيران ثلاثة فمنهم من له ثلاث حقوق حق الجوار وحق الاسلام وحق القرابة, ومنهم من له حقان حق الاسلام وحق الجوار, ومنهم له حق واحد, الكافر له حق الجوار، ومن هنا نعرف كيف ينظر الاسلام باحترام حتى للكافر وكيف ثبت له حقاً, فما بالك بالمسلم؟

وقال رسول الله صلى الله عليه واله (أحسن مجاورة من جاورك تكُن مؤمناً, وكأن حسن الجوار شرط الإيمان، وقوله صلى الله عليه واله (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره). وفي حديث آخر قولهُ صلى الله عليه واله (لا ايمان لمن لم يأمن جاره بوائقه).

وورد عن الإمام علي عليه السلام ان رسول الله صلى الله عليه واله كتبَ بين المهاجرين والأنصار ومن له حق بهم من أهل يثرب ان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

وورد عن الإمام الصادق عليه السلام (حسن الجوار زيادة في الأعمار وعمارة الديار) وكذلك قال عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه واله (ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع).

وفصّل الشيخ الفتلاوي قائلاً" كان النبي الأكرم صلى الله عليه واله كثيراً ما يوحي بالجيران, حتى بيّن حدود وأحكام حق الجار والمجاورة, وهنا سؤال يطرح نفسه وهو كيف نعرف الجوار والجواب راجع للعرف، فأي بيت يطلق عليه العرف جاراً يلزم مراعاة حقوقه.

ومن هنا يظهر ان فلسلفة هذا المفهوم الاسلامي هي بناء مجتمع مؤمن يُحترم فيه الجميع ويحافظ على حقوق الآخرين, ومن هذه الحقوق أن يغض المؤمن بصره عن حرم جاره ويرشده الى ما يصلحه في أمور دينه ودنياه، ويعينه في الشدائد ويقف الى جانبه في النوائب، ولا يستطيل عليه بالبناء فيحجب عنه الريح والشمس إلا بأذنه وأن لا يؤذي جاره.

وأوضح الفتلاوي" في الآونة الاخيرة وخصوصاً في مجتمعاتنا المسلمة بدأت هذه الحقوق بالاضمحلال والاندثار، وذلك لأمور أهمها هو دخول بعض الثقافات الغريبة على أعرافنا واعتقاداتنا، وتنامي بعض الأعراف العشائرية التي من شأنها الدعوة الى التدابر والتقاطع، وكذلك النزعات العرفية والطائفية وضعف السلطة والقانون، مضافاً اليها الازمات السياسية والاقتصادية والتي كان لها دورا كبيرا في سحق هذه القيم والمثل السامية..

وختم الشيخ الفتلاوي بالقول" من هذا يتجلى بوضوح، اذا أردنا لشعبنا وأمّتنا الرجوع الى هذه القيم الاسلامية وبناء مجتمع مدني خال من الحسد والحقد والتنازع، لابد من ترسيخ هذه المفاهيم ونشر ثقافة القرآن والسنة الشريفة، من خلال ورش عمل ودورات عامة ووضع قوانين بنّاءه وصادقة لمحاربة كل من يحاول المساس بهذه المنظومة المجتمعية، وهنا لابد للمصلحين والخطباء ورجال الدين والقانون وكل العاملين من وقفة بنّاءه وكلمة صادقة من اجل ربط الحاضر بالماضي وبيان جدلية هذه المثل والآداب الاسلامية الاصيلة، وطرح كل ما هو دخيل من ثقافات سلبية واطروحات قاصرة عن لم الشمل ووحدة الكلمة وصيانة حضارة امتنا من السقوط في أحضان ثقافة الميوعة واللامبالاة".

أسباب ضعف العلاقات الاجتماعية

الاستشارية في مركز الارشاد الاسري في العتبة الحسينية، زهراء عبد الرسول التميمي، أكدت ان" هناك عدداً من الآثار النفسية والمخاطر التي تنجم عن سوء العلاقة بين الجيران ومنها انعدام الثقة بين أفراد المجتمع، وضعف العلاقات الاجتماعية، وانخفاض مستوى الشعور بالأمان والاستقرار النفسي وقلة الدعم الاجتماعي، والمراقبة المستمرة من قبل الجيران لبعضهم البعض، وانتشار بعض الأمراض الاجتماعية مثل الحسد والنفاق.

وكشفت زهراء عن" العديد من الأسباب التي ساهمت بإضعاف العلاقات الاجتماعية الطيبة بين جيران اليوم مبيّنة:

1.الشعور الخاطئ لدى بعض الأسر بأنّها مؤسسة اجتماعية مستقلة ليست بحاجة إلى الآخرين، وهذا جعل الناس يعتقدون أنهم لن يحتاجون إلى جيرانهم، وبالتالي هم ليسوا بحاجة لمد جسور التواصل معهم.

2.بعض الجيران تقتصر علاقاتهم الاجتماعية نوعاً ما على الأقارب، أما الجيران فقد يتزاورون بالمناسبات فقط، رغبة منهم في العيش بخصوصية أكثر والابتعاد عن تدخلات الآخرين من الغرباء، وقد يكتفون بإلقاء السلام فقط.

3.النزعة العشائرية والحزبية - بأنواعها المختلفة - والانتماءات الدينية والمذهبية السائدة في المجتمع العراقي، فكل عشيرة وحزب ينتمي اليهما عدد محدد من الأشخاص، تجمعهم توجهات وأفكار خاصة بهم، كذلك تجمع أفراد العشيرة الواحدة الى السكن في مكان واحد، فنجدهم يتشاركون فيما بينهم ويتعاونون، على حساب الآخرين، ويميلون الى الاندماج مع بعضهم البعض على الاندماج مع الأشخاص الآخرين من خارج انتماءاتهم.

4.الطبيعة الشخصية للزوج أو الزوجة، والتي تتمثل من خلال منع أحد الطرفين للآخر من إقامة العلاقات والتواصل الاجتماعي مع الجيران.

5.الابتعاد عن القيم الاجتماعية والدينية، والتمسك بما يسمى بقشور الدين. فالإسلام أوصانا بحسن معاملة الجار، ومع ذلك نجد الكثيرين ممن تطغى عليهم الأنانية، ومعاملتهم سيئة مع الجيران.

6.النزعة الفردية التي تتعلق بطبيعة الشخصية، فيميل البعض الى الاهتمام بذاته على الاهتمام بالآخرين، وتفضيل المصلحة الفردية على المصلحة المجتمعية.

7. صعوبة الحياة بالنسبة للعديد من الأسر العراقية في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الناس لا تعطيهم الفرصة لإقامة علاقات طيبة مع جيرانهم ما زاد ذلك من تباعدهم، فالعلاقات بين الجيران تتطلب ايفاء الواجبات الاجتماعية، وغير ذلك من المتطلبات المادية المختلفة.

8.سكن بعض الأسر -لسبب او لآخر- في مناطق لا تتناسب مع طبيعة مستواهم الثقافي والاجتماعي والمادي، وهذا يؤدي الى شعور أفراد تلك الأسر بوجود فوارق فيما بينهم وبين سكان المنطقة التي يقطنون فيها، وبالتالي فإن ذلك يؤدي الى ندرة فرص التواصل.

9.اغلب الأسر العراقية تعاني من ضيق السكن وكثرة عدد الأفراد داخل العائلة الواحدة، فالأبناء المتزوجين جميعهم يسكنون مع ابنائهم في بيت الأب، بالإضافة الى حدوث المشاحنات والشجارات العائلية، وهذا يؤدي الى انصراف افراد الأسرة ببعضهم وبمشاكلهم عن اقامتهم للعلاقات مع الجيران خوفاً من تشويه صورتهم فيما اذا زادت العلاقة الاجتماعية مع الجيران.

ووضعت الاستشارية الاجتماعية جملةً من عناوين الحلول قائلة" من أهم الحلول الاجتماعية التي تعزز من أواصر العلاقات بين الجيران هي احترام الأديان، فمن الواجب ان يحترم الجار العقيدة التي يتبعها الجار، وعدم  الاستهزاء بفرائضه وطقوسه, واحترام عادات وتقاليد الجيران التي لا تنافي الأخلاق والأعراف الاجتماعية، وتقبُّل واحترام الجار بغضّ النظر عن طبيعة عمله وظروفه المادية لأن الأساس هو الأخلاق الحسنة، وتعزيز أواصر التعاون بين الجيران، من خلال تقديم المساعدات المادية (حتى لو كانت بسيطة جداً)، او الدعم المعنوي والاجتماعي، لأن هذه الأمور تفرض طابع الاجتماعية بين الجيران، والمشاركة في المناسبات السعيدة كالأعراس والأعياد وأعياد الميلاد وقدوم طفل جديد، الانتقال لبيت جديد.. الخ، وفي الأتراح أياً كان نوعها، كالمرض أو الوفاة..

شجون الجوار في أذهان المواطنين

الصحفي محمد الشمري، من محافظة الديوانية، صبَّ اتهامهُ في مسالة ضعف الأواصر بين الجيران على وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة فقال" كان الناس يتبادلون الزيارات ويتواصلون بشكل شبه يومي بينهم ويتداولون في شؤون بعضهم البعض وينضّمون أوقات لزيارة الجيران حتى أصبحت هذه الصفة تتصدر صفات المواطن في المجتمع العراقي، أما بعد دخول وسائل التواصل الالكتروني عبر ما يعرف بمواقع التواصل الاجتماعي فأن هذا أضر بشكل كبير بالمجتمع وقطع سبل التواصل الحقيقية وحوَّلها لافتراضية! وبالتالي فان القيم الاجتماعية تحولت الى مثاليات افتراضية لا معنى حقيقي لها.

وأوضح محمد" احد أهم اسباب انقطاع التواصل الاجتماعي الحقيقي بين افراد المجتمع يعود الى التكنولوجيا الحديثة، يضاف لذلك دخول طرق جديدة للترفيه اشغلت افراد المجتمع وحدّت من تواصلهم الحقيقي، ولكني بصفتي الشخصية لازلت أحافظ على علاقاتي الجيدة مع جيراني كونهم في مصاف الأهل، وأن سنين العمر التي قضيناها معاً لها اثر كبير في نفسي، وكذلك تأدية الواجبات الاجتماعية قدر المستطاع..."

الناشطة المدنيّة حوراء جاسم الجبوري رأَت" ان المثُل التي تحدد حسن الجوار أصبحت من الزمن البعيد، فقد كانت العلاقات مبنية على التكاتف والمحبة والوئام، انطلاقاً من رابطة اجتماعية كانت قوية بين الناس، ومع ذلك فإن من الواجب إعادة هذه الروابط كما جاء في قوله تعالى (اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القربى واليتامى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)...

فيما قالت حنان ناظم، بكالوريوس قانون من محافظة بابل" ضعفَ او انعدمَ التواصل بين الجيران في الفترة الأخيرة حتى وصل الأمر إلى المقاطعة والتنافر بشكل وصلَ في بعض الأحيان الى سوء العلاقة بينهم!! متناسين وصايا الشارع المقدس باحترام الجار وتفقده ومساعدته، فهذه من الحقوق التي تعد واجبة على المسلم، لأن النبي صلى الله عليه وآله لا زال يوصي بالجار حتى ظن السامعون بأنهُ سيورثهُ، ومن هنا فإن حسن الجوار صفة مهمة يجب ان تتأصل لدى كل جار إن كان قريباً او غريباً.."

التدريسية زهراء محمد، أكدت على جانب الاختيار الأمثل للجار فقالت" الجار هو رفيق العمر وهنالك مقولة شائعة تقول ان اختيار الجار قبل الدار، فالجيران هم أكثر الناس معرفة بجيرانهم وبذلك هم مدعوون لمراعاة حسن الجوار والصبر على الإساءة خاصة إن كانت غير مقصودة بل ان إظهار الأخلاق الحميدة هو جزء مما أكد عليه ديننا الحنيف بخصوص الجوار.

أضافت زهراء" من واجبات الجوار وحقوقه هو إفشاء السلام، لما له من آثار طيبة في إشاعة روح الألفة، وتفقّد الجيران وقضاء حاجتهم قدر المستطاع، فضلاً عن كف الأذى والتعامل معهم بطريقة محترمة ومساندتهم في السرّاء والضرّاء".

تحقيق: عماد بعو

تحرير: صباح الطالقاني