الوظيفة الاجتماعية في أدعية الإمام السجاد عليه السلام

د. علي ياسين

هل كانت الأدعية التي توجّه بها أئمتنا المعصومون (ع) مجرد جُمل تحقق لهم مناجاة الذات الإلهيّة والتحبب إليها بقصد نيل رضاها، أم أنّ لها دورا أرضيا لا يقل عن دورها وهي تتوجه إلى السماء؟

وإلى أي مدى استطاعت تلك المناجيات المرويّة لنا نقلا عنهم أن تنهض بمهمة أخرى تبدو جانبية أو عرضية إذا ما قورنت بمهمتها الأولى المناطة بها أصلا تلبية لأمر تلك الذات (ادعوني استجب لكم...الآية) وتحقيقا لتوق الكائن الأرضي (البشري) في الانعتاق من أرضيته واللحاق بالعالم السماوي (العلوي) عبر مجموعة من الألفاظ والتراكيب المسبوكة بأسلوب فريد يأخذ بالألباب، والمصهورة بإيقاع خاص يكاد يقطع نياط القلب لو تأملناه بعمق ورويّة؟ ولا غرابة في ذلك من أئمتنا الذين وهبهم الله فصاحة الألسن وبلاغة التعبير.

إن تلك المهمة التي تنهض بها ولا شك تلك الأدعية تتعلق بالبناء الاجتماعي الذي لم يكن غائبا عن وعي أئمتنا الأطهار في كل سلوك سلكوه، وفي كل كلمة قالوها وهي مهمة ربما لا نلتفت إلى قيمتها - نحن العاديين من البشر- إذ نتوجّه بأدعيتنا إلى السماء قاصدين بها وجه الله مرددين أقوالهم وجملهم، في حين إنّ قضية بناء المجتمع وتربية أفراده وإعدادهم نفسيا وفكريا كانت قضية مركزية في فكر الأئمة الأطهار وفي رؤيتهم العامة التي جسّدتها مسيرتهم الكفاحية الطويلة، التي أمضوها وهم تحت عين الرقيب/ الحاكم الذي سعى جاهدا من أجل إجهاض رسالتهم العظيمة في تشييد مفاهيم الحياة الصحيحة كما أراد لها الخالق.

 وبعبارة أخرى إن هذه الأدعية تعلّمنا قيما وآدابا وأخلاقا اجتماعيّة لا تحصى إلى جانب مجالها الأول الذي ينصرف إليه الذهن والمتعلق بتوجّه الداعي/ الإمام إلى الذات الإلهية كسبا لرضاها واعترافا بربوبيتها وإذعانا لجبروتها الذي وعى حقيقة كنهه أئمتنا أكثر من غيرهم. وعليه ستغدو للدعاء وظائف اجتماعيّة عديدة إلى جانب وظيفته الأولى بوصفه خطابا كلاميّا متجها صوب السماء.

وتقف أدعية السجاد - عليه السلام- في صحيفته المعروفة مثالا رائعا في تجسيد تلك الوظيفة، خصوصا، والإمام قد عاش تجربة مرّة ربما لو تعرّض لها غيره من الناس لاعتزل الحياة وانصرف عن المجتمع، فهو الناجي الوحيد من مجزرة الطف التي شهد فيها بأمّ عينه مصرع أبيه وعمّه وأولاد عمومته من آل أبي طالب، وسبي نسائهم وأطفالهم، وكلّ تلك المرارات والهزّات العنيفة لم تثن عزيمته في الإصلاح الاجتماعي والبناء البشري، فالأئمة المعصومون هيمنت على أفكارهم - كما قلنا - رؤية الإصلاح وشغلت تفكيرهم مسألة إعداد الإنسان وبنائه لاستيعاب غايات خلقه التي لا يمكن الوصول لجدواها الحقيقية بسهولة ويسر، ومن الممكن تشخيص مجموعة وظائف اجتماعية تشتمل عليها بعض تلك الأدعية وكالآتي:

 1- لما كانت جلّ تلك الأدعية تتوجه لربّ العزّة لتأكيد ربوبيّته المطلقة وتفرّده بوحدانيته فهي في الوقت ذاته إذعان بعبودية الإنسان وانقياده للمطلق. إنّ هذه الحقيقة ستجعل الفرد أمام حقيقة كونه عبدا لله وحده مقرّا له بالربوبيّة دون غيره، وبذلك تنبني الذات الفرديّة على خشية الله دون غيره من البشر (الطغاة، الجبابرة، الحكام،الخ) وبذلك تكتسب الذات من هذه الطريقة في البناء والتربية أمرين هامين هما شعورها بالمساواة والنديّة للآخرين من ذوي الشأن تحت خيمة العدالة الإلهيّة التي ساوت بين العبد والسيد بالخِلقة وفرّقت بينهما بتقوى الله، وبهذا يتحقق أمرها الثاني وهو: إحساسها بقيمتها كذات لها حقّ العيش تحت عدالة أقرّتها السماء أصلا وإن لم تتحقق واقعا على الأرض.(دعاؤه في الرهبة مثلا)

2- تتوسع (أنا) الإمام في بعض الأدعية كـ(دعاء الثغور) لتصبح (أنا) جماعية ذائبة في بوتقة الأمة ملتزمة بقيمها وثوابتها وهي تواجه المحن والشدائد المختلفة كخطر الأعداء الذين يتربصون بالإسلام وأهله في حروبهم الشرسة للحط من قيمة المسلمين كأمة لها الحق في طريقة العيش والرأي والسلوك، وإن كانت هذه الأمة تحت إمرة الجائرين والظلمة الذين عاصرهم الإمام وذاق من عنتهم واستبدادهم الأمرّين.  

3- بعض الأدعية المتعلّقة بالهموم الكونية والإنسانيّة المعروفة، كالمرض والفقر والموت والمصير الذي يتلوه، وما ينطوي عليه من أهوال، تأخذ طابعا اجتماعيا وإن انطلقت من ذات فردية واحدة، فالإمام يقدّم - إذن- همّه الشخصي الخاص على أنّه همّ عام لكل المسلمين، محققا بهذا وحدة فكرية بين أفراد المجتمع، أساسها وحدة العقيدة التي تجعل الله مسبب الأسباب هو المرجو في كل مصيبة، وهو من يحمي المجتمع المعتصم بحبله، كما أنّه يضع من خلال ذلك الأسس اللازمة للتعاطف والمودة والمحبة بين الناس، بغضّ النظر عن مستوياتهم وأحوالهم، ولذا لا تصبح استغاثة الإمام من مرحلة ما بعد الموت، وبكائياته (ذاتيّة) أو (نرجسيّة) بالمعنى السلبي، بل على العكس، تصبح ذات الإمام مرايا لذوات الآخرين، يجدون عبرها ما يعبّر عن ذواتهم وهمومهم ومخاوفهم، وإن تقديم تلك المعاناة البشرية لا يتم بالطبع بشكل ساذج، بل بطريقة تعلّم الآخرين كيفية مخاطبة الذات الإلهيّة عند الحزن والشدة والرهبة والخوف إلخ من الأدعية المثبّتة بالصحيفة، بحيث تتحول معها ذات الإمام إلى جسر للآخر، وإن كان مخالفاً (غير مسلم)، فكم من النصارى والصابئة والمجوس فتحوا صدورهم للإسلام بعد سماعهم كلمات الإمام التي تنفذ في كلّ قلب ورع.