وسائل التواصل الاجتماعي.. المشغّلات الفكرية وانعكاساتها المستقبليّة

إسراء عزيز الربيعي

مع القفزة التكنولوجية الكبرى التي عرفتها الإنسانية أواخر القرن العشرين ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها إفرازا معرفيا حضاريا ووسيطا تواصليا ينطوي لا على رسالة إيصال المعلومة فحسب، وإنما على حمل عدة رسائل تتضمنها المعلومة المنقولة ببراءة قد تبدو مرعبة إذا ما حللناها في مختبر تحليل يأخذ بالحسبان قدر الخطورة الإيديولوجية والثقافية التي يتضمنها هذا الوسيط الحضاري الجديد.

ومعلوم أن وسائل التواصل الحديث لا تتيحها إلا حواسيب حديثة مجهزة ومبرمجة وذات قابلية فائقة على الاختزال والتكثيف والخزن والعرض والتجوال بين الامكنة والمواقع المنزلة على شبكة المعلومات الدولية، وقد أنشئت هذه الأجهزة الحاسوبية أواسط القرن الماضي في بداية الأمر للأغراض العسكرية في أمريكا بهدف المساعدة في خزن المعلومات وتحليلها بهدف صناعة القرارات على ضوئها، والتحكم من خلالها بالعالم، وكانت في بداية الأمر كبيرة الحجم يصل أحدها إلى حجم الغرفة أو يزيد وكانت تخرج منها آلاف الأسلاك ثم تحولت بمرور الزمن إلى ما هي عليه الآن وقد صغر حجمها ليصل إلى حجم الساعة اليدوية من دون أن تتخلى عنها وظيفيا رغبة صانعها في التحكم بالعالم ثقافيا والهيمنة عليه سياسيا واجتماعيا واقتصاديا من أجل خدمة نظام الحياة الأمريكية ومنظومة قيمها الفكرية عبر إدارة المواقع المتاحة على الشبكة العنكبوتية وبرمجتها بما يتفق ونمط تلك الحياة .

ولما كان التحول الاجتماعي مرتبطا بالتحولات الأخرى في البنية الثقافية لكل مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة فإن أثر وسائل التواصل سيتدخل في إعادة صياغة شكل العالم ومضمونه على اعتبار أن التقدم في إنتاج هذه الوسائل ليس مجرد تطور ملحوظ في ميدان تقني، وإنما هو تقدم يترتب عليه مجموعة من النتائج والتداعيات التي ترتبط ارتباطا وثيقا بما يبث ويستقبل على شاشات هذه الحواسيب التي حولت فكرة أن العالم ما هو الا قرية صغيرة الى حقيقة ملموسة .

والسؤال المهم والخطير هنا هو ما هي الآثار والبصمات التي يتركها استخدام هذه الوسائل على شخصية من يستخدمها وهل ستؤدي هذه الآثار الى تحولات فكرية واجتماعية سلبية أم إيجابية، والاخطر من ذلك ما هو شكل المستقبل الذي تنتظره المجتمعات المحافظة اجتماعيا وثقافيا في ظل استخدام هذه الوسائل التي بدأت بالتراكم نتيجة انخفاض اسعارها حتى في الدول الفقيرة كالصومال وجيبوتي واليمن وسواها من دول العالم التي باتت فيها شبكة الانترنت جزءا من حياتها اليومية التي لا يمكن التنازل عنها أبدا.

وتتيح وسائل التواصل الاجتماعي فرصة مثالية للناس للتعبير عن آرائهم دون خوف أو وجل من بطش السلطات وملاحقتها لما يتوافر في أنظمتها من إمكانيات دخول بأسماء مستعارة او وهمية، مما يؤكد البعد الديمقراطي الذي يشكل مبنى من المباني الفكرية التي تنطوي عليه الحضارة الاوربية التي تسعى لتكريس مبدأ الديمقراطية وتعزيز وجودها عمليا في الحياة اليومية للناس. بينما تكمن خطورتها فيما تشتمل عليه من تعزيز للنزعة الفردية عند الانسان المتواصل على حساب النزعة الاجتماعية، إذ تسعى وسائل التواصل على الدوام إلى تعظيم ما تراه أثرا إيجابيا للأفراد، وبذلك ضمنت لكل إنسان أن يكون له صوته الخاص به المعبر عن وجهات نظره حتى لو كانت هذه الوجهات منافية لإرادة وثقافة المجتمع الذي ينتمي له، وخصوصا عند جيل الشباب الذين أضحوا مربوطين من خلال الفضاء الألكتروني إلى نماذج وقيم أخلاقية وثقافات بعيدة عن واقعهم، وهذه الوسائل بالقدر الذي تعزز فيه مبدأ ديمقراطية الاتصال وتفريغه من سياقه القديم المرتبط بالسلطة، فهي قد تتسبب بنوع من الشعور بالاغتراب لا سيما عند من يرى في قيمه الأخلاقية والثقافية قيما بالية ولا تواكب تطورات العصر.

وبذلك فإن المشغلات الفكرية التي تحرك طبيعة التواصل في عالم الرقمنة ستهيء مناخا تفرض فيه وجود الديمقراطية كسلوك فردي واجتماعي يعزز فرص المساواة وحرية التعبير ويساهم في بلورة وعي جديد لا يقتصر على رغبة المشاركة والتواصل الفعال عبر هذه الوسائل، ولكن من خلال السعي لجعل الخصائص التي سيتسم بها الفرد الألكتروني في مجتمع الانترنت فردا تدخل الديمقراطية كجزء من هويته وتركيبته العقلية والنفسية والاجتماعية المغيّرة لسلوك المجتمع الذي ينتمي له.. مما يتطلب منه أن يعمل على مطالبة الدولة التي ينتمي لها أو المؤسسة التي يعمل ضمن إطارها بأن تدخله شريكا في صناعة الرأي والرؤية المستقبلية، وإنه قادر بما تهيؤه له وسائل التواصل من مقاومة قرارات تهميشه وإقصائه لما لذلك من أثر بالغ في الرأي العام إذا ما امتلك المبررات اللازمة والمسوغات المطلوبة.

وإذا كانت وسائل التواصل قادرة على إعادة رسم صورة المستقبل وتغييره بما تمتلك من قوة تأثير شعبوي جعلت مفكري النخبة ورجال الدين والشخصيات المرموقة بالمجتمع تبتعد عن هذه الوسائل لما تشتمل عليه من خطورة غير محمودة العواقب، ولعل أوضح سبل هذه الخطورة كامن في ما قد تتسبب فيه هذه الوسائل من عزلة إجتماعية بسبب البعد الفرداني الذي يكتنفها، وهو ما أفضى في المجتمعات الحديثة إلى إضعاف النسيج الاجتماعي، لأن هذه الوسائل تطرح من خلال قوة وصولها بديلاً للتشبيك الاجتماعي المعتمد على التواصل الحضوري الحي والخلاق والباني لأواصر علاقات القربى والتعارف بين الناس، فتعزيات الموتى أصبحت تجرى على الفيسبوك بعد أن كانت تجمع الناس من كل حدب وصوب فتخفف عن أهل الميت آلام الفقد وأوجاعه عبر حضور المواسين ومشاركتهم المصحوبة بحرارة العاطفة تصديقا لمقولة كون المجتمع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وكذا الحال بالنسبة إلى المناسبات الأخرى كالزواج والختان وما شابه من مناسبات اجتماعية ستنقرض بمرور الزمن بفعل هذه الوسائل المتطورة بشكل مخيف مع تقادم الايام والشهور.

وهكذا، فإن طريقة تفكير الانسان وعقيدته الخاصة حول الكون والحياة والوجود والله وظواهر الطبيعة والروح وسوى ذلك، تؤثر - كما هو معروف- تأثيرا مباشرا على سلوكه في الحياة، لأن طريقة سلوك الانسان يحددها سلوكه ومواقفه وقناعاته التي تشكلها ذهنيته.

إن وسائل التواصل المولودة برحم ثقافة خاصة قامت بتسخيرها وهندستها وبرمجتها وتوجيهها إلى ثقافات مقصودة هي وسائل تنطوي على خطر كبير على ما فيها من إيجابيات كثيرة، وإن أكثر أخطارها فتكا هو سلخ المجتمعات المحافظة عن هويتها الأصيلة رويدا رويدا، لأن السبب الرئيس الذي دعا الى إنتاج هذه الوسائل كما أشرنا هو سبب فرض القيادة والتحكم، وما زال سبب إنتاجها وتصنيعها ماثلاً لعين كل من يتأمل ما تنطوي عليه هذه الوسائل من أبعاد خطرة ينبغي على الحكومات أن تنتبه لها وتراقب حركة حضورها في المجتمع للمحافظة على أصالة شعوبها وعراقة ثقافتها وأن لا تنجرف تحت ضوء إشعاعها الخادع والزائف والمراوغ...