خطاب الطائفية.. نار البشريّة

زينب عبد الرحيم

ما يحدث في العالم هذه الأيام لا ينفصل عن سنن ومسارات تاريخية مرّت بها الانسانية في عصور سابقة، فكان الصراع البشري مريرا في العديد من محطاته، وهو يستند تارة إلى التدافع على الموارد الاقتصادية وتارة إلى أطماع شخصية أو فئوية وأخرى إلى اختلافات ثقافية أو دينية أو عرقية، وعدا الجانب الدفاعي الذي ينطلق من وجوب حفظ كرامة الانسان ورفع الظلم عنه، فإن الحروب والصراعات قادت إلى انتهاك الإنسانية رغم أنها قد تحمل شعارات القداسة، فيما لا يبدو من التجربة البشرية ـ إلا نادرا ـ أن هناك حربا مقدسة وإنما السلام هو المقدس.

ومن الملاحظ أن الطائفية كانت غطاء لكثير من الصراعات والحروب التي يختفي خلفها العامل السياسي أو الاقتصادي، وكانت غالبا السبب في اندلاعها، وهي في الحالين كارثة تعصف بالانسانية ومقدساتها وتهين العقل البشري، فكيف للانسان أن يبرر قتل أخيه الانسان أو حتى الاعتداء عليه بوسائل مختلفة من هتك حرمته أو إيذائه لمجرد الاختلاف في الفكر، إذا لم يكن معتديا أو ظالما.

ومن المخجل ونحن ندعي التطور العلمي والفكري أن يبقى العامل الطائفي نشطا ويقظا في إثارة النزاعات والصراعات وتأجيج الحروب الكارثية ولا سيما في العالم الإسلامي، وبالطبع لا يمكن إهمال أو نسيان العامل الخارجي الذي تمثله الدول الاستكبارية في تحريك الزلازل الطائفية.

حينما نريد البحث في مفهوم (الطائفية) "يتبيّن أن المفاهيم المتعاقبة أو المتزامنة لكلمة (طائفة) قد اتّسمت بأكثر ما يمكن تخيّله من اختلاط وتشعّب في مدى عمرها الطويل، ولكن باتت تقدّر لها في عصرنا صفة الدينية في الكثرة الكاثرة من حالات استعمالها وأصبح هذا المعنى غالباً عليها"(1)، ولكن يبدو أن الحال تغيّر عما هو عليه الآن بعد تغير موازين التوزيع الطائفي.

"والطائفية هي نزعة لا علاقة لها بالعقائد الدينية أو المذهبية، وإنما استغلت الخلافات المذهبية لأغراض مصلحية بعيدة عن الدين، وتطورت هذه الخلافات لتصبح تعصبا أعمى أشبه بالعصبية القبلية"(2).

ويجب التوضيح والتأكيد على أنه ليس من الطائفية والعنصرية أن يلتزم ويعتز الإنسان بانتمائه الديني، والمذهبي، والوطني، والقومي، بل من الطائفية، والعنصرية، إذا ناصب الإنسان إنساناً آخر العداء، وسعى لإلحاق الأذى والضرر به، بسبب انتمائه.

غالباً ما يجري الحديث عن تسييس الهويات ولا سيما تديينها أو تطييفها بمعنى مذهبتها، ويستخدم ذلك أداة مؤثرة في الصراع السياسي القائم حتى وإن اتخذ صورة دينية أو طائفية، وتعود أسبابه إلى تراكم الكثير من المشكلات المتعلقة بمحاولة التسيد وفرض الهيمنة باسم الدين أو الطائفة على السلطة أو المجتمع، تجسيداً لمصالح سياسية واقتصادية واجتماعية، تتخذ من الدين أو الطائفة شعاراً لها أو عنواناً لحركتها، خصوصاً للحصول على مكاسب أو امتيازات حتى وإن اختفت وراء الشعارات.

وعليه، فنحن لا نتحدث هنا عن تعددية الطوائف التي هي مسألة طبيعية في جميع الشعوب، إذ لا خطر منها، بل عن نزعة الطائفية والعنصرية، أي التمييز الطائفي والعنصري لما يشكلان من مخاطر جسيمة على السلم الاجتماعي.

"إن انقسامات هذه الأمة تكمن في تكوينها وبنيتها منذ القدم، إلى أن جاء وحي السماء بمشروع إنساني عقلاني عظيم يتجاوز الصغائر والعصبيات التي تفرق ولا تجمع ونجح ذلك المشروع (مشروع الإسلام دين التسامح والتعايش ودين السلام والبناء والعمل ودين الحضارة والثقافة) وكنا حينها منارة للعلم والهدى ولإقامة العدل والعمران"(3).

وللأسف فقد عاد البعض بأفعاله وسلوكياته العصبية التي حرّمها الإسلام، وأعيد تشكيل واقعنا وبيئتنا على أسس تجزيئية وفقاً لخارطة طريق المحتل الأجنبي وترافق معه تجزئة فكر الأمة وعوامل تجمعها وبقائها، ونشأ عن ذلك فراغ فكري ينطلق من غياب مشروع جامع لكل مكونات الأمة وتنوعها وأضحى التنوع في أمتنا عامل ضعف وتهديد للأمة بالتمزيق بينما التنوع هو عامل قوة ونهوض حضاري وتجديد لصيرورة الحياة ومتطلبات العصر.

إن الوقوف في وجه التطرف الديني والطائفي والعرقي وما يتركه من آثار سلبية على النسيج المجتمعي، يتطلب مشاركة جميع المؤسسات ومنظمات المجتمع المدني وإصدار تشريعات وقوانين تحد من هذه الظاهرة بوصفها جريمة، إضافة إلى وجوب خلق  بيئة ثقافية واجتماعية للتعارف الثقافي والتفاهم والحوار بين مختلف المكونات المجتمعية وإعادة النظر في المناهج التربوية والتعليمية،  و وضع برنامج فكري متكامل، يدحض الأسس الفكرية والدينية التي يرتكز عليها دعاة العنف، ويوضح بجلاء حقيقة المفاهيم الإسلامية التي يبني عليها دعاة العنف فكرهم. كما أن من المهم للغاية تشجيع قيم وثقافة الحوار والتسامح، والتحلي بأخلاقيات الاختلاف، واحترام التنوع والتعدد المذهبي والديني.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): "الطائفة" في اللغة وفي المصطلح/ أحمد بيضون

(2): دور الطائفية في الأزمة العراقية / عبد الخالق حسين

(3): أثر التحشيد الطائفي على مستقبل المنطقة... / د. علي البريهي/ صحيفة الرأي)