لماذا ينكرون محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ (2)
الباحثة: رجاء محمد بيطار/ لبنان
بعدما ثبت لنا بطريق العقل والنقل، في المقالات السابقة، أن الألوهية ثم النبوة عمومًا ثم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الخصوص، هي من المحتّمات العقلية التي لا يختلف فيها اثنان، كان لا بدّ لنا من معالجة بعض الجوانب الفرعيّة لإنكار نبوة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لإلقاء الحجة على المنكرين بالدليل القاطع الذي لا يقبل الدحض.
كان الشقّ الأول لإثبات نبوة النبي، أنه بالدرجة الأولى جديرٌ بالنبوة، بل هو الأجدر، وقد أوردنا في المقال السابق جملةً من الصفات الخُلقية المتفوّقة التي اتّسم بها ولم ينكرها حتى منكروه، وهي بمثابة الأرض الخصبة التي يمكن لنا أن نغرس فيها فكرة إمكانية تلك النبوة عقلًا، بالحدّ الأدنى، بقي أن نقوم بمناقشة ما أورده المنكرون بحقّه من شبهات، لنثبت تلك النبوة إثباتًا قاطعًا لا مجال للشكّ فيه.
وتتفرّع الشبهات التي ألقاها المنكرون على النبي إلى فرعين: شبهاتٌ حول شخصيته وشبهاتٌ حول رسالته.
أولًا: شبهاتٌ حول شخصيته:
قال الشاعر العربيّ قديمًا: وعين المحبّ عن كلّ عيبٍ عميّةٌ لكن عين البغض تبدي المساوئا
إن هذا البيت يلخّص ما لأهواء النفس من دورٍ في إضفاء صبغة الحسن أو القبح على الآخرين، ولعلّ أكثر من واجه مثل هذه الأهواء كان النبي محمد (ص)، فالمتابع لسيرته الشخصية عن كثب، يلاحظ الكمّ الهائل من الاتهامات التي وُجّهت نحوه دون مسوّغٍ منطقيّ، سوى محاولة الطعن في كماله الخلقيّ من جهة، وفي صحة حكمه وعدالته النبوية من جهةٍ أخرى...
ولعل أبرز تلك الاتهامات أو الشبهات التي ألقاها المغرضون، قدامى ومحدثين، هي:
- الأميّة: اتّخذ المنكرون صفة أميّة النبيّ، أي عدم تعلّمه للقراءة والكتابة قبل البعثة، سببًا لإنكارهم نبوّته، إذ أرادوا إضفاء صبغة الجهل عليه، والعياذ بالله، ولم يدروا أنهم بإلصاقهم هذه التهمة به إنما يثبتون له صفة النبوة ولا ينفونها، وقد أجابهم القرآن على شبهتهم تلك بقوله جلّ وعلا: ﴿وما كنت تتلو من قبله من كتابٍ ولا تخطّه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون﴾[1]، فعدم قراءة النبي وكتابته قبل بعثته بالنبوة هي دليلٌ إضافيٌّ على أن ما أتى به لم يكن من عنده، بل هو وحيٌ يوحى إليه من لدن حكيمٍ خبير، إذ كيف يتأتّى لمن لم يقرأ ولم يكتب أن يحوز كلّ هذه المعارف الجليلة، وأن يأتي بهذه البلاغة المعجِزة، والبراهين الفكرية والعلمية الخالدة، التي حيّرت ولا تزال تحيّر عقول كبار المفكّرين والفلاسفة منذ نزولها حتى اليوم؟
علمًا أن هناك من الأحاديث المعتبرة ما ينفي صفة الأميّة عنه، فقد روى جعفر بن محمد الصوفي قال: "سألت أبا جعفرٍ محمد بن علي الرضا عليه السلام، فقلت: يا ابن رسول الله لِمَ سمّي النبي صلى الله عليه وآله (الأمّيّ)؟، فقال: ما تقول الناس؟ قلت: يزعمون أنه إنما سمّي الأميّ لأنه لم يحسن أن يكتب، فقال: كذبوا عليهم لعنة الله، أنى ذلك والله يقول في محكم كتابه: ﴿هو الذي بعث في الأمّيّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة﴾[2]، فكيف يعلّمهم ما لا يحسن؟ والله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقرأ ويكتب بإثنين وسبعين، وقيل بثلاثةٍ وسبعين لسانا، وإنما سمّي الأمّيّ لأنه كان من أهل مكة، ومكة من أمهات القرى، وذلك قول الله عزّ وجل: ﴿لتنذر أم القرى ومن حولها﴾[3]" [4].
والظاهر مما سلف أن النبيّ لم يكن يقرأ ويكتب قبل البعثة، ولكنه أحسن ذلك بعدها بتعلّمٍ ربّانيّ ملكوتيّ، شأنه شأن الأنبياء والصالحين الذين يتعلّمون بغير معلّم، ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أدبني ربي فأحسن تأديبي"[5]...
ولعمري فإن أخذ العلم والشرائع والأحكام عن إنسانٍ ذو علمٍ لهو مدعاةٌ للثقة والفخر، ولم يستطع أي منكرٍ، مهما حاول، أن ينكر حقيقة أن الإسلام والقرآن قد حملا شرائع إنسانيةٍ عظيمةٍ لا تماثلها شرائع قبلها ولا بعدها، ولئن كان النبيّ أميًّا فتلك إحدى معجزاته، ولئن كان عالمًا فتبقى معجزته قائمة، فكم من عالمٍ لم يأتِ بمعشار ما أتى به!
- تعدّد زوجاته: أخذ بعض المنكرين على النبيّ تزوّجه بعدد من النساء يفوق الأربع، وهو العدد التشريعي... محاولين إرجاع هذا التعدد إلى أمرٍ بشريٍّ يدلّ على شهوانيةٍ والعياذ بالله، وجلّ للنبي، مع ما هو فيه من سموّ خلقٍ ومغالبةٍ للهوى، أن ينحدر إلى مثل هذا المستوى، ولعلّ خير جوابٍ على هذه الشبهة قول الله عزّ وجلّ مخاطبًا نبيّه الكريم: ﴿يا أيها النبيّ قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالَين أمتّعكنّ وأسرّحكنّ سراحًا جميلا﴾[6]؛ فزوجات النبيّ مدعوّاتٌ من قبل الله عزّوجلّ للزهد والابتعاد عن زينة الدنيا، وهي أمور مباحةٌ لغيرهنّ، ومن رفضت منهن ذلك كان مصيرها الانفصال عنه، أي أن يطلّقها، وقد أراد الله تعالى اختبارهنّ لتمييز من ترمي للنفوذ الدنيويّ من ارتباطها بالنبي، ممن ترمي للأجر والثواب الأخرويّ، ومن هنا نعلم أن الأحرى بالنبي أن يكون أكثر منهن زهدًا، وما كان ارتباطه بهنّ إلا لأمرٍ إلهيّ يبتعد كلّ البعد عن الحاجات الجسدية التافهة، والمُراجع لأحوال نساء النبي يلاحظ أنهن كنّ جميعًا ثيّباتٍ، أي متزوّجاتٍ قبله، وبعضهنّ مسنّات، باستثناء خديجة عليها السلام، وهو ما حاول بعض المخالفين تحويره وتبديله لغايةٍ في أنفسهم ليس هنا مجال بحثها، فهل كان النبي ليتزوّج من نساءٍ هذه صفتهنّ لو كان يهدف للتمتّع بشبابٍ أو جمال؟ وهل كان ليدعو نساءه لترك الزينة لو كان ذلك مرامه؟! مع أن الجميلات والشابات والأبكار كنّ في متناول يده، وما كان أولياء أمورهن ليرفضوا تزويجه، خاصةً بعدما قويت شوكة المسلمين واشتدّ عود الإسلام بالانتصارات المتكرّرة التي حقّقها...
إن هذا البند الأخير، بند الانتصارات، هو محور تتمة هذا الحديث، والشبهة الرئيسة التي يرمي بها المنكرون نبيّنا الكريم ورسالته السمحاء، ونترك معالجتها للمقالة القادمة، التي سنبحث من خلالها الشبهات حول رسالته، سائلين العلي القدير أن يجعلنا ممن ينتصر به لدينه ونبيه، دين الحق والعدالة والخلق الرفيع.