على ضوء الأحاديث والقرآن.. الرفض والإيمان بين العقل والوجدان
زينب عبد الرحيم
في نصوص عديدة من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وردَ لفظ الفطرة ومشتقاته، بمعانٍ مختلفة ولكنها متقاربة من حيث الأصل، منها الابتداء، والانشقاق، والخلق الأول للأشياء، وما يكون عليه الشيء في أول أمره قبل أن يتغير، إلا أن المعنى المراد في المصطلح المتعارف في الوقت الراهن بلفظ (الفطرة) هو المذكور في قوله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (سورة الروم: الآية 30 – 31).
فُسّرت الفطرة على أنها التوحيد[1] وقيل أن المراد من (فطرة الله) هو الحال والكيفية التي خُلق النّاس متصفين بها، كما أنّها تعد من ضروريات وجودهم، وفي (صحيحة) عبدلله بن سنان[2] فُسّرت الفطرة على أنها الإسلام، أمّا في (حسنة)[3] زرارة فسّرت (بالمعرفة)، وفي الحديث المعروف: «كلُّ مولودٍ يولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ» جاءت في قبال «التهوّد» و «التنصّر» و«التمجّس»[4] كما أن الإمام الباقر (عليه السلام) في رواية زرارة المذكورة فسّرها بـ (المعرفة). وعليه فالفطرة ليست مقتصرة على التوحيد، بل إن جميع المبادئ الحقّة هي من الأمور التي فَطَرَ الله (سبحانه وتعالى) الإنسان عليها.
من الضروري معرفة ما هو من الفطرة، لكونها من لوازم الوجود وقد تخمّرت في أصل الطبيعة والخلقة، فالجاهل والمتوحش والمتحضر والمدني والبدوي، مجمعون عليها في الأصل، ولذلك تقول الآية الكريمة: "فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" أي أنها لا تختص بفئة خاصة ولا طائفة من الناس. ويقول تعالى أيضاً: "لاَ تبديلَ لِخَلْقِ الله"، وعلى الرغم من عدم وجود اختلاف في الأمور الفطرية، يغفل الناس عن كونهم متّفقين، رغم اختلافهم في الظاهر، ويركّزون على الاختلافات بدل المشتركات، وهذا ما يشير إليه ذيل الآية الكريمة: "وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ".
من هنا فإن الفطرة من أوضح الضروريات، فإذا كان التوحيد أو سائر المعارف الإيمانية من الفطرة أو من لوازمها، فهي الضروريات والبديهيات بل أكثرها وضوحا ويقينا، لذلك تُعدُّ الفطرة والوجدان دليلاً على وجود خالقٍ للكون، لكونهما نابعان من شعورٍ يكمن في النفس الإنسانية، وإحساسٍ مجبول نحو الخالق، بالتالي توّلد الشعور الديني في النّفس، فالعقل لا يستقل بإدراك جوهر الإيمان، كما أنه لا يمكن بناء أصول الإيمان على فرضياتٍ، كما أن الاستناد المغروز في وجدان الإنسان يجعله بانجذابٍ دائمٍ نحو الإيمان بالخالق انجذاباً لا شعورياً، وهذا الميل الفطري والانجذاب الروحي يبرهن على وجود مهيمن على الكون قائم بتدبيره وتنظيمه، ووجوده يتطلب سبلًا للتوصل إلى مراده.
وكذلك يجب على الإنسان معرفة دوره لدفع الخطر، ومن هنا جاء الرّسل لبيان ما أُبهم في هذه الحياة بما يرتبط بالخالق، فانبثقت الأديان السماوية وانتشرت لتمثّل الجزء الغالب من أديان العالم.
في كتابه (دين الفطرة) يرى جان جاك روسو، إن دين الفطرة هو محاولة جدّية وحقيقية لوقاية الإنسان من الزّندقة، والتي تؤدي بدورها إلى الإباحية والفوضى الأخلاقيّة ـ حسب تعبيره ـ في ظل تصاعد موجات الإلحاد التي واكبت عصر التنوير والتحرر، وفي الكتاب ذاته يتكلّم روسو بأنّ "الضمير غريزة ربانية وصوت علوي لا يخفت، كهادٍ أمين لكائن جاهل محتاج كما أنه نبيه حرّ، وبالضمير يميز الإنسان الخير من الشر ولا يخطئ، أو لم يهب لي الضمير لأحب الخير، العقل لأعرفه والحرية لأختاره؟".
يعتبر الوجدان لدى معظم النّاس ـ وإن لم يعلموا أو يقرّوا بذلك ـ مصدرًا من مصادر التدليل في أغلب الأمور، وقوّة في الحكم بين الخطأ والصّواب، إذ يقال بأن الوجدان هو الضمير، أو بتعبير آخر الحاسة التي نحكم من خلالها على أعمالنا وأعمال غيرنا بالخير والشر أو الحسن والقبيح، أنها قوّة في الإنسان ولدت معه، ولها آثار لدى الأطفال قبل حتى أن يتعلموا، وهنا يأتي دور العقل لكي يوثّق هذه العلاقة ويرسّخها بين الإنسان وفطرته وصوته الداخلي، إذا ما حافظ على نقائه وصفائه.
[1]. الکلینی، أصول الكافي: ج2 ص12، 13؛ كتاب الإيمان والكفر، فطرة الخلق على التوحيد: الحديث 1، 5
[2]. عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن قول الله عز وجل «فطرة الله التي فطر الناس عليها» ما تلك الفطرة؟ قال: هي الإسلام. فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد. قال: «ألست بربكم» وفيه المؤمن والكافر.
[3]. عن زرارة، عن أبي جعفر (ع) قال: سألته عن قول الله عز وجل: «حنفاء الله غير مشركين به» قال: الحنيفية من الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله. قال: فطرهم على المعرفة به... قال: قال رسول الله (ص): كل مولود يولد على الفطرة. يعني المعرفة بأن الله عز وجل خالقه كذلك قوله «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله».
[4].ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي: ج1، ص35.