الرمزية الحقيقية

صباح الطالقاني

في الأزمان السابقة لعبت الأديان دورا محوريا في صناعة ما ندعوه الرمز أو المثال الذي يكون نواة تدور في فلكها القيم والمبادئ بالرغم من التأثيرات التي شهدتها المجتمعات جرّاء تباعد الفترات بين رسالة سماوية وأخرى.

وقد انتشرت الرمزية الدينية في الشرق والغرب لكنها انكمشت فيما بعد بفعل عوامل مختلفة، وتمددت بالمقابل الرمزية الثقافية والعلمية والسياسية والاجتماعية، وأخذت تزاحم الرمز الديني نتيجة ابتعاد بعض المجتمعات عن الدين والتديّن.

حتى الغرب الذي اصطبغ عادةً بصبغة التأثير في الأمم الأخرى في العصر الحديث، تركَ الرمزية الدينية أو على الأقل ما اتفقت عليه المجتمعات هناك من تقديس لصاحب الرسالة السماوية الخاصة بها، تركها واتجه نحو الرمزية النوعية والفئوية. وقد أدى ذلك إلى غياب الايمان والرعاية العقائدية التي توفرها الرمزية الدينية، وتحافظ من خلالها على الأطر الرئيسية للمجتمعات من التفكك والانحراف...

ورغم ما يكتنف واقع الإسلام الحالي، بالنسبة لبعض المذاهب، من اضطراب في تفسير العلاقة بين الدين والمجتمع والأمم الأخرى، فقد بقي الإسلام مصرّاً على التمسّك بالرمزية الدينية التي يمكن أن يستهدي بها عند ضياع القيم أو انجرافها مع التيارات الغريبة.

يتضح ذلك جليّاً في مذهب أهل البيت عليهم السلام حيث التمسُك بالرمزية الدينية، ذات الطابع الإنساني العام والمتمثلة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله ومن بعده أئمة اهل البيت عليهم السلام. ذلك التمسّك أبقى على القيم والمفاهيم الإسلامية الحقيقية الداعية للحفاظ على أطر الحياة الإنسانية بموازين معتدلة، بعيداً عن الابتذال أو التطرف والتشدد.

من الصعب بطبيعة الحال في عصرنا هذا أن نرتقي بمجتمعاتنا إلى ما يريده الرمز الديني الأصيل حرفياً، إلا أننا مطالبين بحثِّ المجتمع على تحقيق الحد المقبول من المفاهيم والمعاني الإنسانية، والمبادئ التي جاءت بها الرسالات السماوية من أجل خير البشرية ورفاهيتها بالطريقة المحترمة البعيدة عن التحلل والانحراف تحت شعارات التجديد أو التغيير...

ان تحديات ما يعرف بالتجديد والتغيير تتخذ ألواناً برّاقة ومفاهيم جذّابة، وعناوين حداثية تحاكي عقلية الشباب بأسلوب ماكر قد يجعل منهم أداة للتغيير الفوضوي نحو تحلل المجتمع وتخلّيه عن أهم القيم والمبادئ التي تربّى عليها، وأن تصبح ظاهرة الالحاد او المثليّة - على سبيل المثال - سلوكيات ومفاهيم طبيعية تدخل ضمن حيّز حقوق الانسان وحريته الشخصية، بل ان موجات التغيير هذه تدفعها بخطوط متوازية جهود دولية فاسدة الغرض منها جعل البشر عبيد لرغباتهم، وادوات لتنفيذ اجندات بمستوى عالمي، الغرض منها تفتيت مفهوم المجتمع الانساني المتمسّك بالايمان والعقيدة، وتفتيت مفهوم الأسرة التي هي نواة المجتمع، ويمكننا بنظرة بسيطة ان نكتشف هذه المساعي الدولية المشبوهة بما يجري في بطولة كأس العالم الحالية، التي هي من المفترض انها مُقامة في بلد عربي ومسلم، في حين فرضت الدول الكبرى أن تُرفع في شوارع هذه الدولة المسلمة لافتات تخصّ المثليين -المخنّثين- وأن يُسمح لهم بممارسة الرذائل تحت عنوان الحريات الشخصية!! هذه الدول تطالب تحت الضغط بفرض احترام الرذيلة في حين تُعارض احترام عادات وقيم ومبادئ الدول والامم الاخرى!!

وما هو أدهى وأخطر من ذلك هو دعوات المنظمة الكبرى في العالم وهي الامم المتحدة لتعميم قانون حماية الطفل الذي هو بالأسم يبدو مطلباً عالمياً ولا يختلف عليه اثنان، في حين تضمِّن هذا القانون فقرات تدعو بل تلزم باحترام حقوق الطفل من ناحية جعله على هواه اذا ما اختار ان يكون منحرفاً او مثليّاً او مخنثاً!! وتطالب ضمن هذا القانون باحترام خصوصية الطفل في ما يشاهِد ويتلقّن ويتعلّم دون مراقبة الوالدين وتوجيههما!! وللباحث في هذا القانون ان يرى من خلال نظرة بسيطة محتويات فيديوية مدعومة بأفلام كارتونية تروّج للمثليّة، وتضخ هذه السموم في عقول الاطفال لأقناعهم انها حريات شخصية!! وان الانسان يجب ان يحب الانسان ويختلط معه ويتفهم مشاعره وسلوكياته حتى وان كانت منحرفة، وبالنتيجة ستكون هذه السلوكيات مستساغة وقابلة للتقليد مستقبلاً.

ان الإيمان والعقيدة ليست اكتشافاً وابتكاراً قام به الانسان بل هي من صفات الفطرة التي خلق الله تعالى عليها البشر، ولذا فان الرمزية الدينية تبقى رغم كل هذه الأمواج العاتية من الانحراف القلعة الاخيرة للدفاع عن نُبل الانسان وتوجيهه لأداء الرسالة التي من اجلها خُلِق.