أهوارنا في مهبِّ الريح

الباحث: صباح محسن كاظم                                                                                                 

كل شعب يعتز بحضارته وآثاره وموروثه الحضاري والثقافي، وفي عراق الأنبياء والأولياء كانت الحضارة السومرية بجنوب ووسط العراق تمثل الريادة الحضارة بالبشرية. مهد الأنبياء من النبي إبراهيم الخليل - عليه السلام -  وظهور التوحيد الأول بالبشرية أرسى ثقافة عراقية شاملة بجميع المجالات (التدوين- الشعر- الفن -القضاء -والابتكارات)..كان العراق الخصب بسبب وفرة المياه.. فيما أزمة المياه  اليوم والتجفيف المتعمد من تركيا حول الوطن المقدس بلاد الخصب، والنماء، بلاد السواد، والزراعة، والنخيل، والمحاصيل المتنوعة من الفواكه، والخضروات، فضلا عن البلد المصدر للحنطة والشعير، والمنتجات الزراعية بمختلف الغلات لعقود خلت من القرن الماضي، يعاني بسبب كثرة السدود من جيرانه فشحة المياه، وأزمة حادة في التصحر، ومحاولات جفاف الأهوار.

ولعلّ أهم المشاكل التي تواجه شعبنا بالعراق هي الجفاف، والتصحر، وانخفاض منسوب الكميات من الحصة المائية، التي تصل من تركيا عبر دجلة والفرات وروافدهم.. تلك النسبة المنخفضة تؤثر سلبا على بيئة بلاد ما بين النهرين، لان الإمدادات المائية لنهري دجلة والفرات من المنبع الى المصب تقع عليها مدننا العراقية، وحصتنا من تركيا غير كافية للسقي والاستخدام البشري؛ فالسدود المقامة بتركيا وسوريا وقطع الروافد من الكارون من قبل ايران على البصرة، ومحاولات تجفيف الأهوار الفردوس الأرضي مدن الماء والطين.. والقصب.. والحياة الإركولوجية، والأحيائية المتنوعة، وبالتالي حصول التصحر، وزحف الكثبان الرملية على المدن بسبب الجفاف.

ثمة ندرة بالكتب الشحيحة التي تناقش قضايا استراتيجية ومستقبلية كموضوع المياه بالعراق، وتراجع الإمدادات المائية من دول الجوار، وبالتالي ينعكس على الواقع الاقتصادي، وانخفاض الإنتاج الزراعي.. وانتشار التصحر بالوسط والجنوب.. كل كتاب الانثروبولوجيا والتاريخ يؤكدون على نشوء الحضارات بجوار الأنهار، فالماء سر الوجود وسر الخلق والتكوين وتهتم الشعوب بمصادر المياه وبيئة الأنهار، إلا نحن نهمل أساس الحياة.

قرأت كتاباً نادراً ومهماً ومفصلاً بعنوان (العطش المر في وادي الرافدين بين التخريب والتنظيم وتعسف الجوار) صدر عن بغداد عاصمة الثقافة برقم (193) ب592 - عبد الرضا عبود الحميري عن المياه والفيضانات والسدود والاتفاقات الدولية ومعالجة الأزمة المائية الجديدة، يُحذر المؤلف من الجفاف القادم الذي ينتج عنه التصحر فيما نحن بغفلة وتراخي وتماهل من العدو المتربص بالقادم الذي يحيل أرضنا لليباب..

فيما الكتاب الذي أعرضه هنا: (إمداد ماء الشرب في العراق - مشكلات الحاضر وخيارات المستقبل)، سبقه بتناول الموضوع حيث صدر عام (2009) للمهندس والكاتب (لطيف عبد سالم) عن مطبعة العدالة - ط1 بـ(228) صفحة، وقد ورد بمقدمته 10-13: (... ولعل هذا العمل مناسبة نلفت بها أنظار الجهات المسؤولة إلى ضرورة العمل على توسيع آفاق المساهمات البحثية والارتقاء بها وتأمين لوازم المناخ الملائم لتنفيذ توصيات البحوث وأدواتها المقترحة، فضلاً عن توسيع فرص المساهمات البحثية في إغناء خطط الأجهزة الحكومية وبرامجها، وما يتطلب ذلك من إزالة ما يعيق حركة الأنشطة البحثية...).

ويؤكد المؤلف لطيف عبد سالم، بكتابه المُفيد والمُعالج لقضية حيوية حياتية (وتعد مياه الشرب في المجتمعات المعاصرة بوصفها أكثر مهمات البلدية أهمية في إطار خدمة المجتمع وتغطية حاجاته الضرورية..).

إنَ الاستراتيجية للتخطيط الناجح تتوقف على توفر المياه، والا لا يمكن حصول أي تنمية؛ لذا يستلزم العلميّة والدقة الفنيّة التي هي من المستلزمات والسبل والطرق للحفاظ على ثروتنا المائية سواء حفر الآبار الارتوازية أو البدائل حسب الإمكانيات المتاحة المخزونة بالسدود وآلية تطوير الأداء بتوفير المياه الصالحة للشرب وتقديم الخدمات للمجتمع؛ إذا ما علمنا أنَ نقاء الماء يعني القضاء على الأوبئة والأمراض.. بالطبع المحافظة على مياه الأنهار بعدم رمي النفايات، والمخلفات ،ومياه المجاري الملوثة يوفر بيئة صالحة.

وهذا الكتاب بفصوله الثرة ناقش: نظرة عامة عن إنتاج ماء الشرب بين عهدين - واقع إمداد ماء الشرب بالعراق في العهد الملكي- واقع إمداد ماء الشرب في ضوء أوضاع العراق العامة بالعهد الجمهوري بأزمنتنا المعاصرة التي تعاني شحة المياه.

 بالتأكيد المسؤولية تخص جميع الوزارات الزراعة - الصحة - البيئة - الصناعة - الداخلية -الخارجية، فدراسة ملفات تأثير قلة المياه ينبغي ان يقدم للجانب التركي ليرعوي، ويتدارك الموقف المخل بالعلاقات الدولية، والإنسانية، وحقوق الدول المتشاطئة.

كذلك تشكيل خلية عمل لمناقشة ومعالجة ازمه المياه من خلال إيجاد حلول مناسبة في السقي بالتنقيط، وتبطين القنوات للتخلص من التسريب الغير مبرر، وبناء السدود، والخزانات المتوسطة، والاهتمام بالمياه العذبة ببلاد ما بين النهرين منذ بدء الخليقة، ونشوء الحضارات كانت تسمى أرض السواد لخصوبة الأرض، وكثرة البساتين حتى قرأت بكتب التأريخ حينما كان يؤذن بالكوفة بخلافة الإمام علي عليه السلام. كانت لاتصال البساتين يكون صياح الديكة موحداً على طول المسافة إشارة لخضرة البلاد. النهران دجلة والفرات والروافد من تركيا وإيران جعلت منه موطن الزراعة، وسلة الغذاء، بكل الأزمنة والمُؤل لكل الهجرات بسبب الجفاف بالجوار..

لكن التصحر، والجفاف، وتشقق الأرض، وجفاف بحيرة حمرين، وانخفاض منسوب مياه الأهوار بعد انحسار الحصة المائية المشروعة من المنبع، قد أثرت سلبياً على تربته، وخصوبتها، حتى الرائي من بغداد للبصرة يرى طفح الأملاح وتجرد الأرض من الخضرة.. كذلك كانت الخضرة تمتد من سامراء للموصل الحدباء أم الربيعين، هالني ما رأيت بملتقى هواجس التشكيلي العراقي مطلع هذا الشهر بزاخو ودهوك، كل مددنا ينحسر خضرتها، الكثبان، التصحر، يزحف على مدننا بسبب قلة حصة العراق لذا وجهت النداء من حدود تركيا بالتواصل الاجتماعي طالباً مناشداً الجارة تركيا بحقوق الدول المتشاطئة، الوطن يستغيث من انحسار الإمدادات بسبب السدود التركية.

في العين قذى وفي الحلق شجى من عطش بلاد النهرين! حرب المياه أزمة مأساوية تخوضها تركيا ضد شعبنا وتعد عدواناً صارخاً على حقوق العراق، وسوريا، فالدول المتشاطئة لها حقوقها بالكميات المطلوبة التي تفي بالأغراض الزراعية، والاروائية وتسد الحاجات للشرب والاستخدامات الاخرى..

إن إنشاء السدود لحجب كميات المياه المتدفقة دون مراعاة حاجة الشعب العراقي الذي تضرر الواقع الزراعي، ونوعية المياه، التي تصل من المنبع الى المصب.. إن الواجب الانساني والعلاقات الدولية المتكافئة بين الجيران ينبغي أن تقوم على التعاون المشترك وليس لي الاذرع أو وضع العراق بعنق الزجاجة وعلى الاتراك أن لا ينسوا ما لحق بنا من احتلال العثمانيين لمدة 5 قرون من الانحطاط الزراعي والصناعي وتوقف تطوير البنى التحتية التي انشغل الاتراك فيها بجباية الضرائب على كاهل العراقيين لإدامة الفتح العثماني شرقاً وغرباً، لقد أهملوا انشاء قاعدة صناعية وتحديث المدن مما جلب المعاناة وبعد خمسة قرون من الاهمال تصدى الشعب العراقي بعد الغزو البريطاني مطلع القرن التاسع عشر للوقوف مع الاتراك ضد البريطانيين باعتبارهم من المسلمين لكن الاتراك هزموا وتركوا المجاهدين في العراء ليتقدم البريطانيون ببطيء نتيجة المقاومة العراقية الضارية لهم، ثم ثورة العشرين الخالدة ليهب شعبنا بأسره ضد الغزو البريطاني...

وعود على بدء إن عطش شعبنا وتوقف الزراعة بوسط وجنوب العراق وخصوصا زراعة الشلب (الرز) التي تحتاج الى وفرة من المياه ستؤدي الى مشاكل اجتماعية واقتصاديه والتقرير الأخير لمنظمة المياه الاوروبية يتوقع جفاف نهر دجلة (1800كم) في العراق بحدود عام 2040 بسبب السياسية المائية التي تعمل بها تركيا.

يشير التقرير الى أن نهر دجلة يفقد سنويا 33 بليون م3 من مياهه، وينقل عن الخبير الفرنسي دي مونيت المدير التنفيذي للمنظمة القول أن العراق يعاني ازمة مياه حادة تحتاج الى جهود دولية مكثفة.. ويضيف «على ضوء نتائج هذا التقرير تتبادر الى الذهن اسئلة كثيرة منها هل صحيح أن تركيا تتعمد احتجاز المياه عن العراق، وهل حجز المياه ورقة ضغط على الحكومة العراقية او انها تنمية اقتصادية كما يعبر الساسة والاعلاميون الاتراك؟

وهل من حق تركيا حجز المياه عن دخول العراق؟

وهل يتطلب الامر تدخل الامم المتحدة أو اللجنة (العراقية، التركية) ستتوصل الى حلّ مقنع للطرفين؟

وهذا النقص بالمياه يرافقه رداءة بالنوعية وكثرة التلوث وأوضح هنا إن طاقة خزن المياه في العراق تأثرت كثيراً بسبب حصر المياه في السدود التركية، كما أشارت اللجنة المرسلة من منظمة البيئة العالمية وعلى لسان رئيسها الخبير فرنسان بيون الى وصول نسبة التلوث بمقدار 1800ملغ - لتر بينما يفترض ان تكون النسبة مقاربة الى المعدل العالمي 800 ملغ - لتر.

وارجع بيون ارتفاع نسبة التلوث الى الحروب التي خاضها العراق وعمليات (التسميد الكيميائية) التي تسبق انشاء المشاريع التركية والاخطاء الجغرافية لمواقع المصانع التي تقع على ضفاف دجلة حيث وصل عددها الى 476 مصنعاً وتعمدَ هذهِ المصانع الى رمي مخلفاتها بشكل مباشر في النهر ان هذه السدود العملاقة التي تحجب المياه عن التدفق الى العراق وسوريا تعد كارثة انسانية، حيث عملت تركيا على بناء 22 سداً عملاقاً ومنظومة محطات كهربائية كبيرة اطلقت عليها (مشاريع الغاب) على ضفاف نهر دجلة في جنوب شرق تركيا، حيث ذكر تقرير في وكالة أصوات العراق ان الازمة المائية أخذت تتجه صوب التأثير الفاعل بكل الجوانب البيئية وتشكل تهديداً خطيراً على مستقبل العراق.

وينبع كل من دجلة والفرات من حوض الأناضول بتركيا، ويعبر النهران تركيا وسوريا والعراق، ويبلغ طول الفرات 2780 كلم، منها 1200 كلم داخل العراق، أما نهر دجلة فيبلغ طوله 1950 كلم، منها 1408 في العراق.

ويتكون مشروع (الغاب) من 22 سداً ضخماً، فضلا عن مشروع تخزيني ومحطات طاقة كهربائية وشبكة اروائية كبيرة، وتقدر القدرة التخزينية لهذا المشروع حوالي 100 مليار متر مكعب، وهذه القدرة تمثل ثلاثة أضعاف القدرة التخزينية للسدود العراقية والسورية مجتمعة. العراق، من جانبه، حذر قبل أيام على لسان وزير الموارد المائية من" أن العراق سيخسر جراء المشروع 40% من أراضيه الزراعية، إضافة إلى تأثيرات أخرى تصيب نهري دجلة والفرات لا سابق لها في البنية الاجتماعية بالعراق، فضلاً عن التغييرات البيئية الهائلة التي ستنتج من الانخفاض المرعب لمنسوب المياه.

وفي بيان لوزارة الموارد المائية صدر مؤخرا توقع خبراء الوزارة" أن يتعرض العراق إلى أزمة مياه تهدد أراضيه بالتصحر بعد انخفاض منسوب مياه نهر دجلة عند اكتمال مشروع سد اليسو - احد السدود المنفَذة ضمن مشروع (الغاب).

وأوضح البيان أن" الوارد المائي الطبيعي لنهر دجلة عند الحدود العراقية التركية هو 20.93 مليار متر مكعب في السنة. وفي حال تنفيذ المشاريع التركية، يتوقع أن ينخفض هذا الوارد إلى 9.7 مليار متر مكعب في السنة، وهو يشكل نسبة 47 في المئة من الإيراد السنوي لنهر دجلة، وان لمثل هذا النقص انعكاسات خطرة على العراق في مجالات الزراعة والشرب وتوليد الطاقة والصناعة."

يصف كثير من الاستراتيجيين الذين حضرتُ لهم ندوات بلبنان طوال 8 أعوام ان أشد الأزمات القادمة تتمثل في حروب المياه، كما هو واضح الان بين اثيوبيا ومصر والسودان بسبب سد النهضة الذي يؤثر كلياً على مصر هبة النيل، وكذلك سرقة المياه من قبل إسرائيل من لبنان والأردن، ومنع تركيا لتدفق مياه دجلة والفرات على سوريا والعراق، لذا فالمخاطر محدقة بالمنطقة ومن الواجب على الإعلام تنبيه الحكام والشعوب من مخاطر هدر الثروة المائية.. وعدم الري بطرق بدائية.

في زيارة قام بها وفد من الإعلام الدولي في العتبة الحسينية المقدسة الى الاهوار قبل أعوام، شاهد الزملاء المنظر المهيب للفردوس الأرضي وخضرة الأرض، وتوزع الجاموس بانتظام في المسطحات المائية بالأهوار والطيور المهاجرة من كل البلدان، فيما أصبحت اليوم قاحلة جرداء، لذا وجّهنا النداء من الأهوار بحضور منظمات المجتمع المدني لمناشدة تركيا والضغط عليها بمنح العراق حصته المائية.