من علل التعبير القرآني.. الفرق الدلاليّ بين (الوالد، والأب، والعم)

أ.م.د: سهيل محمد حسين

الأب في اللغة: سبب وجود الشيء ـ أو إصلاحه، أو ظهوره، وسمي الأب أبا؛ لأنه يقوم على إصلاحا الأبناء ورعايتهم بالتربية والغذاء.

والوالد في اللغة: الأب المباشر، الذي هو سبب وجود الابن. فالوالد خاص، والأب عام.

والاستعمال القرآني للفظين يراعي ما لكل منهما من ملامح دلالية خاصة، فالأب يطلق على الأب المباشر كما في قوله تعالى: "إذ قال يوسف لأبيه" (يوسف) 4، وكما يطلق على الجد والعم  وإن علا(1)، نحو قوله تعالى: "ملّة أبيكم إبراهيم" (الحج)، والعم أيضاً فقوله تعالى: ﴿ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وإِله آبائِكَ إِبْراهِيمَ وإِسْماعِيلَ وإِسْحاقَ إِلهًا واحِدًا﴾ البقرة/ 133، وإسماعيل لم يكن من آبائهم وإنما كان عمّهم.

المتتبعُ للسياق القرآني سيجد أن هناك فروق بيانية لـ (الوالد، والأب، والعم) منها:

أـ (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) ﴿٨٠ يوسف﴾

ب – (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي) ﴿٩٣ يوسف﴾

ج – (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) ﴿٢٥ القصص﴾

د -(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (41) (إبراهيم)

هـ – (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) ﴿١٣٣ البقرة﴾

و -  (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )﴿١٧٠ البقرة﴾

ز- (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ﴿٢٠٠ البقرة﴾

حـ ـ (إذ قال يوسف لأبيه) (يوسف) 4

السياق في الاستعمال القرآني لكلمة (أب) أعلاه يدل على ما كان سببًا في وجود الشيء أو رعايته أو ظهور.

أما (الوالد) في الاستعمال القرآني فقد اقتصر على معنى الأب المباشر الذي هو سبب وجود الابن، وفي أكثر المواضع جاء في صيغة المثنى إيماءً إلى أن الأنثى هي الوالدة على الحقيقة، وألحق بها الأب؛ لأنه السبب المباشر في وجود الابن(1)، ومن ذلك قول الله تعالى: "لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانًا" (البقرة) (78).

وورد مجموعًا للدلالة على سلسلة الأجداد، كما في قوله تعالى: "قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" (البقرة 170).

وقوله تعالى: "أنتم وآباؤكم الأقدمون" (الشعراء)

واستقراء الآيات التي ورد فيها لفظ (الوالد – الوالدين) يدلنا على دقة التعبير القرآني؛ حيث إن الوالد – وهو الأب الأدنى (أي المباشر) دون غيره.

قد استعمل في سياقات تقتضي قوة الرابطة والعاطفة، نحو قول الله تعالى: "وبالوالدين إحساناً"؛ حيث المقام هنا مقام صلة روحية وعاطفية بين الوالد وولده، وقد نبه القرآن الكريم على قوة هذه الرابطة العاطفية في قوله تعالى: "واتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا" (لقمان) 33.

فقد تضمنت الآية نفي النفع والشفاعة بأبلغ وجه، فكأنه قيل: أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته، فضلا عن أن يشفع لمن فوقه. ولم يرد الوالد مجموعا في القرآن الكريم، وفي هذا قرينة على أن هذا اللفظ مقصور على الأب المباشر دون غيره.

وقد ورد لفظ (الوالد) مفرداً أو جمعًا في هذه الآيات الكريمة:

- وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) (البقرة).

- كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) (البقرة).

- لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) (النساء).

- وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) (النساء).

- وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) (النساء).

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) (إبراهيم).

إذًا يُطلق لفظة "أب": عند إرادة معنى التربية والتغذية والعناية والرعاية والاهتمام، ويطلق عليه.

و "والد": عند إرادة معنى التفرع والتناسل وانفصال الفرع عن الأصل. وعند النظر في ورود الكلمتين المتقاربتين في القرآن، فيمكننا ملاحظة ما يلي:

-استخدم القرآن كلمة "الأب" بمعنى "الوالد"، في آيات عديدة، منها قوله تعالى:

"إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين" (يوسف:4).

- أطلق القرآن الأب على الجد القريب أو الجد البعيد، كما في قوله تعالى:

"ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين.." (الحج: 78).

 أما الوالد فإنه لا يطلق إلا على الأب الحقيقي الذي أنجب الإنسان؛ فلا يطلق على العم والجد.

- ورد الأب في القرآن مفرداً ومثنى وجمعاً، أما الوالد فإنه ورد مفرداً ومثنى فقط، ولم يرد جمعاً.

من وروده مفرداً قوله تعالى:  ("ووالد وما ولد")  (البلد:3).

ومن وروده مثنى قوله تعالى

("للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون") (النساء:7)

 وهو لم يرد جمع مذكر "الوالدون" ، لأنه ليس للإنسان إلا والد واحد، أو والدان اثنان هما الأب والأم أو الوالد والوالدة.

- في الكلام على النسب يستخدم القرآن كلمة الأب أو الآباء، كما في قوله تعالى:

 "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم" (الأحزاب : 5).

- في الوصية والبر والإحسان يستخدم القرآن كلمة "الوالدين" ؛ لأن الوالد يدل على قوة الصلة المباشرة بين الوالد والولد، ويذكر الولد بأصله الذي تفرع عنه، ويرشده إلى أهمية التواصل بين الأصل والفرع. قال تعالى:

("وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً") (الإسراء: 23).

- اللطيف أن القرآن يساوي بين الأب والوالد في الكلام على الأمور المالية كالميراث والوصية، لأن الحقوق المالية تشمل كلاًّ من الأب والوالد! أورد "الوالدين" في قوله تعالى:

"للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" (النساء:7).

 وجاءت "الأبوين" في قوله تعالى:

 "ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث" (النساء:11).

الاستنتاج

(الأب والوالد، والعم): الأب يذكر ويراد به التربية والرعاية والتوجيه والإرشاد.

فالأب هو المربي، الذي يغذو أولاده، ويقدم لهم الغذاء المادي الضروري لأبدانهم، والغذاء الروحي الضروري لأرواحهم وقلوبهم. أما الوالد فإنه يذكر ويراد به التوالد والتناسل وانفصال الولد عن الوالد، وتفرعه عنه، فالوالد يتعلق بالجانب المادي من حياة الأبناء، أما الأب فإنه يشمل الجانب. المادي القائم على الغذو والإطعام، والجانب المعنوي القائم على التربية والتوجيه".