أهمية قراءة التاريخ

البروفيسور علي عبد فتوني/ لبنان

اعتادت الدول "النامية" أن تقول إن التاريخ يعيد نفسه"، ولكن المفارقة هي ان هذه الدول لا تتعلم من تاريخها لأخذ العضة والعبرة، والإستفادة من الأخطاء لبناء حاضرها، وتجنب الأزمات والفتن بدلاً من تكرارها مرة تلو الأخرى.

هذه الدول يجب أن تقرأ التاريخ كونه من أهم العناصر التي يستند عليها أي شعب في تطوره، والوقوف في نطاق مسيرته، والتطلع من خلاله الى المستقبل، لأن من لا يتعلم من دروس التاريخ "لا يعرف الماضي ولا يفهم الحاضر، ولن يستشرف المستقبل".

والتاريخ من أهم الأسس التي تعتمد عليها الشعوب المتقدمة، والنظرة إليه دراسة وكتابة تتصل بصورة وثيقة بإتجاهات الوعي العام، وبالسوية الثقافية، ويتمثل فيها التفاعل أو التصادم بين الآراء والمفاهيم الموروثة وبين الإتجاهات الجديدة.

وأن صلة التاريخ وثيقة بالإتجاهات الفكرية وبالتطورات العامة، يتأثر بها ولا يخلو بدوره من الأثر فيها، وهذا يوضح تباين الإتجاهات في تعريف التاريخ، وبالتالي في تحديد دوره، فهناك من يراه البحث عن الحقائق وتدوينها، وهناك من يعتبره ربط الحقائق وتفسيرها .

نخلص الى القول في هذا المجال، أن الأهداف والتطورات تبدو لأول وهلة وكأنها منفصلة، وهي في الواقع مترابطة متداخلة، والفكر الطليعي يكمن في القدرة على إستيعاب هذه الأحداث، ومعرفة إتصالها ببعض من أجل وضع الحركة التحررية في البلاد ضمن إطار واضح المعالم .

إن عملية الربط واكتشاف التداخل بين مختلف التطورات والأحداث من أعقد التحديات التي تواجه العمل السياسي، ولعل إبقاء هذا الإتصال بالأحداث العالمية وفي حالة الإلتصاق بالمعاناة القومية من شأنه أن يعطي العمل السياسي دوره الفاعل والمنظم والمنتج .

نسوق هذه المقدمة لأن معظم الدول النامية تعيش وسط متغيرات شديدة التأثير على أوضاعها، ولا بد أن يكون استيعابها لها هو الوسيلة التي تمكنها من السيطرة على الثوابت في تصوراتها وأهدافها، وتمكنها من الإستيعاب، لأن الأوهام تمثل في تاريخ الأمم وتطورها  دوراً لا يقل خطورة عن غيره من العوامل الكبيرة التي تؤثر في حياتها. وكلما إبتعدت الأمم وضربت في مضمار التقدم كان حنينها الى الماضي عظيماً، والدول الكبرى تعطف على ماضيها السحيق وكأنه مثلها الأعلى لتحقيق مستقبل زاهر، وبكل عجرفة وكبرياء ينظرون الى ماضيهم، ويحيون أوهامهم الغابرة التي نشأت على حساب غيرهم من الشعوب الأخرى .

إن هذه الدول حالت دون نشوء كيان جماعي للدول النامية، يتولى أمر النهضة الحضارية فيها بإرادتها وإختيارها، عندما نقضت وعودها، وحاربت محاولاتها الإتحادية.

والجدير ذكره، أن الدول النامية تعيش في بيئة عالمية شديدة القسوة، وقد إنعكس ذلك في نمط العلاقات داخلها، وخصوصاً بين الدول الرئيسية، إذ إتسمت هذه العلاقات أغلب الوقت بعدم الإنسجام والإستقرار، ما أدى الى ولادة علاقات مأزومة إنعكست سلباً على طبيعة التواصل بين هذه الدول .

على ضوء ما تقدم، لا بد من التأكيد على أن التاريخ هو إدراكاً لما حدث في الماضي، فإن هذا يقتضي من الدول النامية التدقيق في مواقفها، وتحكيم العقل، ومواجهة الخطر الذي يتهددها، خاصة بعد أن كشف النقاب عن المخططات الجديدة بكل صراحة قبل البدء بتنفيذها .

يتضح مما سبق أن الدول النامية هي أكثر مناطق العالم حساسية وتأثراً بالتحولات الجارية على المستوى الدولي، خصوصاً على ضوء الفراغ الإستراتيجي التي تعانيه منذ سنوات، والذي إزدادت حدته بفضل الأزمات الداخلية، حيث شهدت صعوداً  لأسهم الإنقسامات التي عبّرت عن نفسها برفع شعار  بلدنا أولاً، الذي تضمن في ثناياه دعوة الى القطيعة مع القضايا المتعلقة بمصير الشعوب .

إن كل ما تقدم لا يعني سوى أن مأساة الدول النامية سوف تستمر فترة طويلة، وأن الشعوب  ستدفع أثماناً باهظة ، وأن الحروب لن تنتهي ما دامت الدول الكبرى لم تتراجع عن أهدافها في ظل مرحلة إنتقالية معقدة تشهد البدايات الأولى للتحالفات الجديدة التي تعمل لبلورة نظام عالمي جديد، ينطلق من قاعدة أساسية، وهي أن من يملك القوة العسكرية يمكنه وحده أن يتحكم في القرار الإقتصادي والسياسي العالمي. والمنطق الذي دفع هذه التحالفات الجديدة الى العمل لإنشاء نظام عالمي جديد، هو بالدرجة الأولى الإعتبارات الإقتصادية، وتأسيساً على ذلك أصبح المطلوب قيام تحالفات تستجيب لمتطلبات الدول الكبرى، وتعمل لقلب كل موازين القوى، وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لضمان تفوقها .

وهنا نشير الى أن المشاريع  الجديدة ما هي إلا شكل جديد من أشكال السيطرة التي تعكس طبيعة النظام العالمي الجديد وتوجهاته، ومن الوهم الإعتقاد بأن النظام الجديد سيحقق إزدهاراً ونمواً إقتصادياً يعم الدول النامية، لأن الحسابات الإستراتيجية لهذا النظام تهدف بالأساس الى تحقيق مصالح الدول الكبرى على حساب الدول النامية وشعوبها .

وفي السياق ذاته، يجب أن تعلم الدول النامية وشعوبها أن مشاريع الدول الكبرى ضد حقوقهم المشروعة، وفي طليعتها حق تقرير المصير، والإستفادة من ثرواتهم، يترافق ذلك مع دعم الصراعات الداخلية والتضليل الإعلامي بهدف ضرب القوة  الشعبية، وإغراق الدول النامية في بحر من الدماء، بالإضافة الى إعتماد سلاح الشرعية الدولية بغية تجريم الدول التي تحاول مقاومة مشاريع الدول الكبرى .

إزاء هذه الحقائق، على الدول النامية أن تدرك أن روح المقاومة ضد المشاريع الإستعمارية مستهدفة، وأن مقومات البقاء والتواصل الحضاري مستهدفان، وأن القوة الإقتصادية والعسكرية مستهدفة، يضاف الى ذلك نهوض دول جديدة تمارس تأثيرات مباشرة في صميم دول نامية تحظى بدعم مهم، وثقل ملموس من الدول الكبرى ما يوفر لها دوراً في رسم الخريطة الدولية، ومقعداً في المحافل الدولية، وصوتاً مسموعاً من الصديق والعدو على حساب الدول النامية وشعوبها .