الإنسان والدين.. والعلاقة التخادميّة

الباحثة: زينب عبد الرحيم
الصورة: حكمت العياشي

إن الغرض الأسمى من وجود الأديان هو التعريف بوجود الله تعالى وتهذيب السلوك الإنساني وتعريف الانسان بسبب وجوده، فتستقيم بذلك المجتمعات، كما أن الدين يساهم في بعث الاطمئنان في نفس الإنسان، وهي خدمة كبيرة تعجز عن تقديمها النظريات والأطروحات الوجودية ونحوها، لأن الاعتقاد بوجود الله (القدرة المطلقة) والعمل بأوامره بما يضمن رضاه يبعث الطمأنينة في قلب المؤمن، يقول الله في القرآن الكريم (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) }سورة الرعد/ آية 28{، ويكافأ كل إنسان على ما يقدّمه من عملٍ صالحٍ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) }سورة النحل/ الآية 97{.

وإذا أردنا الحديث عن العلاقة بين الدين والإنسان ينبغي أن ننطلق من احدى الحقائق الأساسيّة، وهي أن قدوم الأديان السماوية بكل ما يرتبط بها من تشريعات واحكام وأنظمة هي لخدمة الإنسان على وجهٍ أساس، بمعنى أن الالتزام بتشريعات الدين وأنظمته، تفضي على المستويين العام والخاص إلى سعادة الإنسان واستقراره، أمّا اغلب الأفكار التي تذهب إلى أن وجود الدين غرضه خدمة أو الدفاع عن الإله، فهي تناقض العديد من النصوص المقدّسة من قبيل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) } سورة فاطر/ الآية 15{، فالقاعدة الناتجة عن فهم مغلوط لفلسفة الدين والتي تفضي إلى أن الدين غرضه الدفاع عن الإله، هي أساس الجمود والتّعصب الذي ينتج عنه الإقصاء والتكفير، واندلاع الحروب الدينية باسم الرّب، وأيضا المشاكل الناتجة عن حشر الإنسان لله في أمورٍ هو في غنىً عنها، فبوصف الله كليِّ القدرة لا يمكن للإنسان الضعيف أن يتصدى دفاعًا عنه فالحقيقة أن الدين كان ولا زال مصدرًا رئيساً في إشباع الحاجات الرّوحية للإنسان، وإرشاده للهدف من حياته، وهو سبيل يوظّفه الإنسان لجلب السعادة والسلام الروحي، وهذه الوسيلة خاضعة لمصالح الإنسان حسب متغيرات الزمان والمكان والظروف، لأن الدين مفاهيم متحركة وليست جامدة، وهو وجد لتلبية حاجات زمنية وظروف عاشها أجدادنا البشر في مختلف العصور والحضارات، وعملية توظيفه لخدمة مصالح الأنسان هي غاية من غايات الدين باعتباره نشاطاً روحياً وفكرياً وشعائرياً.

ان العلاقة بين تشريعات الدين ومصالح الإنسان الخاصة والعامة علاقة وطيدة، لذا نجد أن القرآن أنكر على أهل الكتاب تنازلهم عن حقوقهم المشروعة وحرياتهم الإنسانية التي ولدوا عليها، ورضوا بالعبودية لرهبانهم وأحبارهم الذين تبؤوا سلطة التشريع بدل الرب، إذ يقول تعالى: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ"، فلم تجيء الأديان إلا لتحرير الإنسان من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، لذلك نجد القرآن الكريم يدعو أهل الكتاب كافة ليتحرروا من هذه الأغلال والعبودية لغير الله، وأن يفردوا الله وحده بالعبادة والخضوع. إذ قال تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بيْننَا وَبَينَكُمْ أَلَّا نعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيئًا وَلَا يتَّخِذَ بعْضُنَا بعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ  فَإِن توَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (آل عمران: 64).

فالإنسان وفق النظرة الرّبانية هو أكرم مخلوق، حيث نفخ فيه من روحه، وهو الوحيد من مخلوقاته الذي اختاره ليكون خليفته في الأرض، وكرّمه بالعقل وهداه السبيل، وعلّمه البيان وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمه، لذلك نجد أن جميع القيم والتشريعات الدينية، جاءت من أجل تحرير الإنسان وحمايته وتكريمه والسموّ به في مدارج الكمال والرقي.

وهبَ الدين للإنسان مكانةً سامية، فقد خلف الإنسان الله على الأرض وهي الميزة التي تفرّد بها الإنسان عن بقيّة الكائنات، كما أن مظاهر تكريم الإنسان في القرآن متعدّدة، نعرض هنا بعضًا منها:

1ـ الإنسان خليفة في الأرض:

أكد القرآن الكريم أن الإنسان من أكرم مخلوقاته وأعظمها، فقد خلق آدم بيديه، ونفخ فيه من روحه، وجعله في الأرض خليفة، تكريماً للإنسان، وجاء ذلك في الحوار مع الملائكة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30).

2ـ إكرام الإنسان في تشريع الأحكام:

يغطي هذا الباب جميعَ الأحكام الشرعية، ويشكل دافع لمعرفة العلّة فيها والحكمة من تشريعها، ويحتاج إلى بحث مستقل في شرحه وتوضيحه سوف نعرض له في مقالات أخرى.

3ـ الإنسان وطبيعة الخلق:

قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21)، أي: تأنسوا {مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}، أي: جنسكم {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} أي تأنسوا بها، فإنَّ المجانسة من دواعي التضامن والتعاون، {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، أي: تواداً وتراحماً بعصمة الزواج بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي: في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة.

وسوف نعرض في مقالات لاحقة طبيعة العلاقة بين الانسان والدين بشكل أكثر عمقاً من خلال استعراض مناطق العلاقة وسبل تقويتها وإدامتها.