دور التعليم في معركة الحداثة

 

البروفيسور علي عبد فتوني/ لبنان

يعتبر التعليم خط الدفاع الأول في مواجهة التحديات المعاصرة، وقد أصبح تطويره حلم متجدد من أحلام الشعوب، وشغلَ هذا الموضوع اهتمام المفكرين في مجال التربية والتعليم، لأنه يشكل أساساً للأمن القومي في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ومهما تعددت الآراء وتنوعت وتشابكت إلا أنها تنتهي الى الإتفاق على أن التعليم هو المدخل الأمثل للحصول على نخبة  قادرة على تحقيق متطلبات الوطن، والعيش في ظله، والمحافظة عليه.

علينا أن ندرك أن وطن الغد هو وطن التعليم المستقبلي الدائم والمتجدد لجميع المواطنين، من المهد الى اللحد، ويعمق ولاء المواطن للوطن، ويؤهل شعوره بانتمائه، ويعزز تفاعله مع سائر الثقافات، ويصقل قدرته على إستيعاب التكنولوجيا الحديثة المتطورة وابتكارها.

ويمكن القول، أن التعليم يعتبر أبرز ملامح الإستراتيجية الوطنية الفعالة، وأحد مجالات الإنصاف في المجال الإجتماعي، لأنه يتيح للنساء فرصاً مع الرجال، وللريف مثل المدينة الفرص المتساوية  للإلتحاق به، وما يتيحه هذا من تهيئة لفرص العمل القائمة أو المتولدة، وتوسيع فرص التعليم أيضاً، وما يؤمّنه من عدل في إطار المشاركة في تحسين إمكانية الحصول على وسائل الإنتاج.

والدعوة الى تطوير التعليم وتجديده تتردد في شتى أقطار العالم، وهي تؤكد أن هناك  فجوة بين الطموح والواقع، وبين الأهداف والمتحقق، وهذا يؤكد أهمية إعادة النظر في نظام التعليم وتجديده.

والجدير ذكره، أنه من المرغوب فيه أن يأخذ نظام التعليم نفسه بالمبادئة في مواجهة الظروف الجديدة والمتغيرة من حوله، وهذا يتطلب أساساً أن يقتنع الذين ينغمسون إنغماساً "مباشرا" في التعليم من مسؤولين ومنفذين بأن التجديد هو الطريق الوحيد للخروج من الأزمات، مما يتطلب فعلاً توافر إتجاه جديد نحو التغيير داخل الجماعة التي تعمل في مجال التعليم.

ونخلص الى القول في هذا المجال، أن مواكبة العصر ومقتضياته ، تقتضي تطوير نظام التعليم في جميع مراحله، ومراكز الأبحاث ضماناً لاستمرار مسيرة الحياة، وتحقيقاً للتنمية الشاملة للمجتمعات بما يمكن الشعوب  من الشعور بالإعتزاز لدورهم الحضاري في الماضي، والإسهام في أداء دور يتناسب ومقوماتهم الضخمة في العالم المعاصر.

ولهذا فإن مستقبل التعليم لا يتوقف على دراسة هياكل الماضي ومشاكل الحاضر، وإنما يتوقف أيضاً على البحث عن المضامين التي تقتضيها المتغيرات في نظرة واقعية ومستقبلية، لأن البلاد  التي تواجه تحديات تستدعي إعادة النظر بنظام التعليم الذي رعته سابقاً الأفراد والجماعات، كما تستدعي هذه التحديات إعادة النظر في أهداف ووظائف المؤسسات التربوية والتعليمية المدرسية والجامعية، لأنه لم يعد بالإمكان ترك الأوضاع على ما هي عليه، بل يترتب على ذلك تحديد أهداف نظام التعليم ووظائفه، لأن الحياة تتجدد باستمرار، ومن الضروري التنبه الى هذا التجدد في شخصية الطالب وتطوره، وتجدد الأساليب التربوية والتعليمية التي تشمل طرائق التعليم ووسائل الإيضاح، والمناهج والبرامج والقوانين، بحيث تصبح الطرائق المعتمدة أكثر ملاءمة لشخصية الطالب وتطوره.

تجدر الإشارة الى أن التقدم العلمي المذهل تميز بنمو هائل في المعارف وبتطبيقات إتسع نطاقها في شتى مجالات الحياة، وظهرت التكنولوجيا الحديثة، فقدمت أشكالاً جديدة للطاقة ووسائل  جديدة للنقل والإتصالات، ونشاطات جديدة تعتمد على المعلومات التي تتمثل في الكمبيوتر وغيرها من وسائل حديثة.

يؤكد ما تقدم، أن الإنسان هو أساس البناء وصانع التقدم، وهو اللبنة الأساسية للتطور، وهو الفكر والخطط والقوة المنفذة ، فكلما صلح الإنسان واستقام بناؤه واكتملت قيمته صلح المجتمع والعكس بالعكس. وإذا كان  دور التعليم كله ينبغي تنشئة مواطن يكون نواة المجتمع، فإن الجهد في هذا السبيل لا بد أن ينصب على العمل بكل الوسائل المتاحة لتحقيق هذا الهدف، ولأن التعليم هو الركيزة الأساسية للإنتاج، حيث أنه يعد  إنفاقاً "إستثماريا"  في الموارد البشرية التي تحتل أهمية كبرى في دول العالم .

علاوة على ذلك، هناك إجماع على أن الشباب في أية دولة في العالم يمثلون قوة الدفع فيها ، فهم يمثلون القوة والطاقة الخلاقة، ويعمل المجتمع على رعايتهم وإعدادهم إعداداً "تربويا" و "تعليميا"، لكي يمتلكوا مسؤولياتهم المقبلة في قيادة العمل الوطني، وتحقيق التنمية الشاملة لمجتمعهم.

فالتغيرات الواسعة في العالم تتطلب النظر الى التعليم بكل مراحله ومستوياته على أنه حاجة أساسية وضرورة من الضرورات الأولية لتحقيق النمو الإقتصادي والإجتماعي والثقافي.

وفي هذا السياق، يجب أن نعترف أن المستجدات في العالم تفرض على الدول وشعوبها القيام بثورة تربوية - تعليمية، في مجالات التعليم والأساليب التربوية، لأن مجموعة التغيرات التي حصلت في شخصية الأجيال الصاعدة من الزوايا الإجتماعية والنفسية قد طرحت على النخبة المتعلمة مشكلات جديدة لا تستطيع حلها بالعودة الى المفاهيم والمقاييس الجامدة التي استعملت في الماضي، بل على الجهات المختصة  البحث عن وسائل جديدة تكون أكثر ملاءمة لأوضاع الأجيال الصاعدة .

على ضوء ما تقدم، نقول أن تجدد وتنوع متطلبات الحياة تشكل الحافز الأساسي لتطوير  الوسائل التعليمية في المدرسة والجامعة، وأن تنبثق المناهج التعليمية من نظرة عالية للمواطن تتناسب مع شخصيته بجميع نواحيها، وتواكب المستجدات التعليمية المتطورة، لاسيما في المجال التكنولوجي، مع التأكيد على أهمية وضرورة تطوير المناهج مما يعزز الإنتماء والإنصهار الوطني والإنفتاح الثقافي.

لا بد من التأكيد على أن المناهج  هي من أخطر الأمور وأكثرها تعقيداً، لأنها تعبر عن السياسة التي تسير عليها الدول، كما أنها إحدى الدعائم الأساسية للتربية والتعليم، وهي فوق ذلك ميدان تتصارع فيه الأفكار والإتجاهات، ومجال يتعارض فيه العرف والتقاليد والتراث الثقافي مع متطلبات ومستلزمات الحاضر، بل المستقبل.

ومن ناحية أخرى، لا يمكننا تجاهل أننا نعيش اليوم إنعكاساً لأهداف وتطورات أحدثت ثورة في النظم الإقتصادية والإجتماعية والسياسية على الصعيد العالمي،  فرضت العالمية نفسها مع تطورات علمية وتقنية، وأصبح بإمكان الإنسان معرفة كل شيء واستعماله على صعيد العالم، حيث أصبح هذا العالم هو إطار العلاقات الإجتماعية .

وهذا يؤكد مرة أخرى أنه قد آن الأوان لتوجيه قدر أكبر من الإهتمام برفع مستوى التعليم، والتركيز على تنمية وقدرة جيل الشباب لاستيعاب حقائق الحياة المعاصرة، وتطويرها بما يخدم قضية الوطن والمواطن.