مخاطر جائحة الفساد في العالم

البروفيسور علي عبد فتوني/ لبنان

أيقن العالم بأن جائحة الفساد على اختلاف مظاهرها تعد المعوق الأكبر لكافة محاولات التقدم، والمقوض الرئيسي لكافة دعائم التنمية، مما يجعل آثار الفساد ومخاطره أشد فتكاً وتأثيراً من أي خلل آخر، لأنه ينتشر في كافة نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية والمالية، ويوسع دائرة الفقر في العالم .

ولا يقتصر الفساد على الدول النامية فقط، بل أصبحت الرشوة جزءاً من الصفقات التجارية، لدى الشركات المصدرة من الدول الكبرى "المتقدمة"، التي تدفع رشاوى الى مسؤولي الدول المستوردة بعد أن أصبحت أمراً اعتيادياً تلجأ له الشركات لتسهيل حصولها على عطاءات، خصوصاً الحكومية المرتبطة ببناء البنية التحتية.

وتمارس الدول الكبرى المصدرة أسلوباً محرّماً قانونياً  للحصول على موافقة لتصدير منتجاتها وخدماتها، من خلال الرشاوى ما يتسبب في إرتفاع أسعار البضائع والخدمات المقدمة، مع عدم ضمان جودتها في الكثير من الأحيان. بالإضافة الى ظهور مخاطر جديدة نتيجة للسرقات، وتحويل التمويل بعيداً عن الغرض المقصود منه، كاستخدام شركات وهمية مجهولة الهوية لتأمين الفوز بالعقود الحكومية، والحصول على القروض أو الإعانات .

حيال ذلك تفاقمَ حجم الفقر في معظم دول العالم، وزادت أعداد الفقراء، وبدأت الطبقة الوسطى في التلاشي، ورغم اختلاف الأسباب بين دولة وأخرى، فإن ظاهرة الفقر متشابهة في ظل عجز الحكومات عن معالجة عميقة للظاهرة .

والجدير ذكره، أن منظمة الشفافية الدولية أصدرت تقريرها السنوي، ورصدت زيادة الفساد في العالم، وتبين أن معظم الدول تراجعت تراجعاً ملحوظاً في تقييم الشفافية بالنقاط حيث أن ٩٠ في المئة من هذه الدول حققت أقل من نقطة على مقياس مدركات الفساد العالمي .

لا يخفى على أحد مدى إرتفاع معدلات الفقر في العالم، وخاصة في السنوات الأخيرة، مع دخول عدد من دول العالم في أزمات وحروب داخلية وخارجية أثرت على الملايين من سكانها، والإحصاءات تنذر بكارثة فيما يتعلق بهذا السلام المدمَّر ، الذي أدى الى زيادة عدد الجياع ومن المتوقع أن يرتفع ويتحول الجوع الى أدوات ضغط تهدد الدول وقرارها السيادي، إذ تلجأ الدول الكبرى الى ممارسة التهديدات والضغوط على الدول النامية لضمان دعمها في المحافل الدولية.

إزاء هذا الواقع، تقلصت القوة الشرائية  للأجر وارتفعت الأسعار، وتفاقمت المشكلة المعيشية، ومن أبرز ظواهرها صعوبة تأمين الغذاء لأصحاب الدخل المحدود والمتوسط، وتخوف الشعب من حرب الجوع، بعد أن إعتمد أرباب العمل الإحتكار وكبار التجار ولحقهم الصغار هامشاً حرّاً لتحديد الأسعار يحددها كبار التجار، وخسر العديد من الناس عملهم، فكبرَ جيش العاطلين عن العمل، وبدأت المداخيل الخاصة بالأسرة تتأثر، فانعكس الأمر على ميزانيتها، وعلى إنفاقها.

وتجدر الإشارة الى أهم الظواهر وأخطرها، هو الإفقار المطلق الذي طال ولو بدرجات متفاوتة فئات كبيرة من شعوب العالم في الريف والمدينة على السواء، مع تهميش متزايد للشرائح الدنيا من هذه الفئات، وتزايد ظاهرة البؤس نتيجة توالي موجات الأزمات، وتفاقم البطالة وتدهور القوة الشرائية لمداخيل الموظفين ، والتغيرات الكمية والنوعية في ترتيب الفئات العاملة نتيجة تقلص القاعدة الإنتاجية للإقتصاد في معظم دول العالم .

إنطلاقاً من ذلك تعيش الأسر الضيق المادي  لأن الوالد أصبح من دون عمل ومدخول، ورغبات الأولاد وحاجاتهم صارت دونها الإمكانات المتوفرة التي أخذت تتضاءل. لذلك بدأ الاولاد يلمسون علاقة الإمتناع عن تلبية حاجاتهم، سيما أن الأهل قبل الأزمات كانوا يتمكنون من إظهار أسوأ الأمور على أحسن وجه، ولم يكن يظهر تناقض الأهل أمام الأبناء، كما لم تكن تظهر حالات ضعفهم، وإنفعالاتهم، ومشاداتهم، وردّات فعلهم، لأن المجال كان منسقاً لإخفائها عن الأولاد. ولكن في ظل الظروف والأزمات الصعبة، اهتزت مصداقية الأهل الإجتماعية، وفقدوا كثيراً من هيبتهم، وضعفت سلطتهم وتأثر دورهم كأداة إجتماعية لنقل القيم وترسيخها لدى أولادهم .

وقد تدهورت الحالة الأمنية في معظم دول العالم، واستفحلت ظاهرة البطالة في صفوف اليد العاملة، وتفاقمت حدة الغلاء وشلل الكثير من مرافق الإنتاج، وتردي حالة البيئة والنظافة، وأزمة السكن وإنهيار القيم والأخلاق، بعبارة أخرى أن معظم دول العالم غارقة في محنة إقتصادية وإجتماعية ومالية ومعيشية عميقة، أوصلتها الى حافة الإنهيار على كافة الصعد والمجالات .

لقد تكاثرت الأزمات التي أوصلت دول العالم الى هذه الحالة الصعبة ، وتشعّبت حتى استباحت كل قيمة إنسانية متعارف عليها مثل "الحياة والحرية والعمل والملكية والرأي"، وأخذت حدود إحترامها تضيق أو تلغى تبعاً للظروف والأطراف، وصار صعباً تحديد نقاط ثابتة، كقيم يدعى الشعب للأخذ بها، والإسترشاد بمضمونها في السلوك والتصرفات .

ولهذا فإن الأزمات الاقتصادية والمعيشية لم تتوقف عند المؤسسات والشعب، بل تعدى ذلك الى دمار النفوس وتطلعاتها الى المستقبل، والى فقدان المواطن ثقته بكل شيء، وبشريكه في الوطن، وبدلاً من أن تكون الرغبات العدوانية موجهة الى عدو خارجي إتجهت الى المواطنين أنفسهم .

ومن المهم أن ندرك أن الفقر يعود الى تفشي الفساد، وغياب النزاهة والمحاسبة في جميع مستويات الدولة، مع عجز السياسات التنموية في تحقيق طفرة نوعية في الحياة اليومية للمواطنين، نظراً لعجز الحكومات عن توفير الحد الأدنى من الخدمات بأسعار تناسب دخل المواطن، بل تهدد بعضها بالتوقف عن دفع الرواتب للموظفين، وتتعامل باستهانة شديدة مع صحة  الشعب رغم تفشي الأمراض بشكل واسع.

وأخيراً، لا بد من الإشارة الى أن معظم الدول تعاني من فساد سياسي تنفذه طبقة الساسة والحكّام، ويقومون باستغلال نفوذهم لتوجيه القرارات السياسية والتشريعات، لتحقيق مصالح خاصة في ظل غياب الشفافية، وأصبح كرسي الحُكم بالنسبة للمقربين من الحاكم مصدراً للسلطة والمال، وكأن الشعب لا يكفيه قسوة الفقر والبطالة، وفقدان الوظائف والعوز..