حينما تكون السيرة النبوية شاغلا فكريا

قراءة في كتاب (كتابة السيرة النبوية لدى العرب المعاصرين للباحث حسن بزاينيّة)

د. علي ياسين

كانت شخصية النبي الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) شخصية استثنائية بكل المقاييس، فمنذ ظهورها في القرن السابع الميلادي والى يومنا هذا ألهبت هذه الشخصية حماس الكتاب والمفكرين والأدباء الذين رسموا لها- على اختلاف مشاربهم وألسنتهم - صوراً عظيمة تستقي مادتها من بناء ذهني واحد غلبت عليه القداسة وأغرق في تجسيد الفضائل الإنسانية والمعجزات التي يتعاضد في إنتاجها فكر مغرم بهذه الشخصيّة وقابلية فذة على صياغة الفن السيري، ومع إطلالة العصر الحديث لم تتوقف محاولات الأدباء والمفكرين العرب من العودة إلى منهل هذه الشخصية الإنسانية الفذة لأسباب ودواع مختلفة.

ويرتبط ظهور فن كتابة السيرة النبوية في الموروث الأدبي الثقافي العربي والإسلامي برواية الحديث النبوي ارتباطا وثيقا، فمع ظهور أول نص مدون يخص سيرة الرسول الأكرم وأخباره المتواترة على يدي (ابن اسحاق المطلبي ت152هـ) وتهذيبه لاحقا على يدي تلميذه (ابن هشام ت 213هـ) كان هذا الفن يبلور مفهومه الخاص به والمرتبط بالترجمة القائمة على الدراية المعرفية بما يتعلق بأحوال الرسول الأكرم، وسلوكه، ومواقفه، وأخباره، وحروبه التي خاضها من أجل إعلاء كلمة الله، وقد صارت هذه الدراية مع مرور الزمن (علما من أعظم العلوم فضلا وشرفا، وهو عبارة عن ذكر مناقبه عليه الصلاة والسلام، ومآثره وبيان أوصافه السنيّة، وأحواله العليّة، وخصائصه ومعجزاته البهيّة) وهذا العلم ينطلق من مبدأ أن لا تاريخ حقيقي للمسلمين إلا بالتاريخ الهجري الذي ابتدأ مع الرسول الأكرم عندما حوصر في مكة فأراد أن يفك الخناق لهذه العصبة المجاهدة من خلال قرار الهجرة إلى المدينة المنورة (يثرب) التي كان أهلها أرق قلوبا وأكثر ترقبا لهذا الطارق العظيم الذي سيغير وجه الكرة الأرضية في أعوام قلائل!

ولم تنقطع الكتابات العربية والاسلامية التي تتخذ من سيرة الرسول الاكرم موضوعا لها منذ ان كتب ابن اسحاق كتابه –مار الذكر- وحتى يومنا هذا، بل أن هذه الكتابات في تزايد مستمر لدرجة أن من نعرض لكتابه –الآن- قد أحصى أكثر من  150 كتابا في السيرة النبوية في القرن الماضي وحده، أما صاحب الكتاب فهو الأستاذ (حسن بزاينية) الذي أعد كتابه هذا كأطروحة دكتوراه في إحدى الجامعات التونسية، وقد طبع الكتاب ونشرته في العام 2014م دار المركز الثقافي في المغرب.

والكتاب بـ447 صفحة مقسم تقسيما منهجيا إلى ثلاثة أبواب، الأول: (المحدثون وكتابة السيرة النبوية ويضم ثلاثة فصول هي: نقد الاصول في سيرة السيرة النبوية منذ النشأة حتى العصر الحديث، وفي مدونة السيرة الحديثية، والسيرة النبوية الحديثة في الدراسات) والباب الثاني: (اتجاهات الكتابة في سيرة النبي خلال العصر الحديث، ويضم ثلاثة فصول، هي: الخطاب التمجيدي الحديث وسيرة الرسول، وجهود منهجية وعلمية في كتابة السيرة خلال القرن العشرين، وتلوين السيرة) والباب الثالث: (وظائف الكتابة الحديثة في سيرة النبي محمد، ويضم فصلين، هما: الردود على المستشرقين في كتب السيرة النبوية الحديثة، والوظائف الأيديولوجية والسياسية للسيرة النبوية الحديثة).

وقد تعرض الباحث في الباب الأول إلى رصد جهود العرب المحدثين من خلال ما مجموعه أكثر من 150 كتابا كلها كتبت في القرن الماضي في محاولة لإلقاء الضوء على سيرة النبي الأكرم عند العرب المحدثين على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم، بينما عرض في بابه الثاني، وهو أخصب أبواب الكتاب، إلى اتجاهات كتابة السيرة التي حددها بثمانية اتجاهات تمثل كل جهود العرب المحدثين في كتابة السيرة بغض النظر عن طبيعة توجهاتهم، وفي آخر أبواب الكتاب تحدث الكتاب عن الوظائف التي تضطلع بها كتابة السيرة النبوية عند الكتاب العرب في العصر الحديث، وترتبط هذه الوظائف ارتباطا وثيقا بالاتجاهات رغم اختلاف الاتجاهات، وقد تساءل الكاتب في حديثه عن الوظائف وعلاقتها بالتوجهات قائلاً: كيف يمكن لنا الفصل بين الوظائف التي تضطلع بها كتابة السيرة النبوية عن مقاصدها عند الكتاب العرب النصارى -مثلا- عندما يمجدون النبي الأكرم وهم يتطلعون من خلال ذلك إلى غاية أخرى أو وظيفة أخرى تتمثل بالسعي لتوحيد العرب وإعادة مجدهم التليد عبر استيحاء نموذج الرسول الأكرم موحد القبائل المتناهشة والخارج بها إلى صناعة المجد والتاريخ!

وقد حاول الباحث أن يقرأ نصوص السيرة النبوية المكتوبة في العصر الحديث قراءة من داخل النصوص وقوفا على ما يختبئ داخل النص اللغوي من إشارات ودلائل كان الكتاب يقصدونها بوعي منهم أو بغير وعي وصولا إلى الإمساك بأوجه التشابه والاختلاف بين نمطي كتابة السيرة النبوية قديما وحديثا، وهذه مهمة لم تكن باليسيرة إلا على الباحثين الذين يصبرون على مشاق الدرس وغوائل البحث المعرفي.

وقد رصد الباحث أثناء متابعته لأنماط كتابة السيرة النبوية عند العرب في العصر الحديث مجموعة من الشواغل المركزية التي أثارت الكتاب العرب وجعلت منهم يولون هذه الشواغل أولوية خاصة عند كتابتهم للسيرة النبوية، وربما جاء في صدارة هذه الشواغل المحركة السيَرية، حروب الرسول الأكرم، وتعدد زوجاته، والمعجزات النبوية التي تناقلها الرواة كالإسراء والمعراج وانشقاق القمر وسوى ذلك من معجزات، ويعلل الكاتب التركيز على هذه الأمور بسبب تأثر الكتاب العرب بالثقافة الفلسفية والعلمية الحديثة التي تستطيع أن تفتح باب التأويل على الأحداث والوقائع المرتبطة بالسيرة النبوية التي أجمعت مصادرها الموثوقة أن حروب الرسول الأكرم كانت مفروضة عليه نظرا للتهديدات والاستفزازات التي يثيرها خصومه لمنعه عن ممارسة قناعاته والترويج لها بين الناس، وأن زيجاته الكثيرة لم تكن لتقع بدافع إشباع اللذة بقدر وقوعها لأسباب إنسانية وأخلاقية بدليل أن جل زوجاته من الأرامل والعجائز المتعففات، أما المعجزات فقد أثبتها القرآن الكريم وشهد بوقوعها بعض الحاضرين من صحبه الكرام.

وينتهي صاحب هذا الكتاب الجدير بالقراءة إلى مجموعة من النتائج المهمة التي توصلت إليها دراسته التي كانت بالأساس أطروحة للدكتوراه في اللغة والحضارة الإسلامية، ومن الممكن إيجاز هذه النتائج بالآتي:

  • إن مدونة المحدثين في السيرة على قدر عظيم من الاغناء، إذ اشترك في كتابتها مختلف الكتاب بمختلف التوجهات، فمنهم الأدباء كطه حسين، وعبد الرحمن الشرقاوي، إلخ، ومنهم رجال دين كشيوخ الأزهر، ومنهم رجال سياسة، كفتحي رضوان، ومحمد حسين هيكل، ولم يقتصر التأليف على كتاب تكتنف ثقافتهم مرجعيات إسلامية سنية، بل شاركهم كتاب شيعة في ذلك، إلى جانب كتاب عرب من المسيحيين اللبنانيين والمصريين .
  • سجل الباحث أول ظهور للسيرة النبوية في شكلها التجديدي الحديث مع بداية المنتصف الثاني من القرن العشرين، ففي سنة 1948م ظهر كتاب (سيرة الرسول الكريم، صور مقتبسة من القرآن الكريم) لمحمد سعيد دروزة باعتماد كاتبه على القرآن الكريم أساسا وتهميش ما سواه من مصادر ومرويات تاريخية وظّفها للاستئناس والزيادة، ثم تلاه كتاب (تاريخ العرب في الإسلام السيرة النبوية) للمؤرّخ العراقي د. جواد علي سنة 1961م، وقد استهدى بكتابه هذا برؤية المستشرقين الذين تتلمذ عليهم.
  •  كشف الباحث عن غلبة (النفس) السني على الطريقة التي كتبت من خلالها السيرة النبوية، فمعظم الكتاب العرب ينتمون إلى هذه الثقافة الذين عولوا على مصادر قديمة هي بالأصل متسمة بالميسم السني كسيرة ابن هشام، والسيرة الحلبية وتاريخ الطبري، وسوى ذلك من مصادر أخرى. وهذا لا يعني عدم وجود كتاب للسيرة اتخذوا من الثقافة الشيعية مرجعا ومن مصادر هذه الثقافة كتاريخ اليعقوبي وكتاب الإرشاد إلى معرفة حجج الله على العباد للشيخ المفيد، وسوى ذلك من مراجع ومصادر أخرى، ولكن ما يخلص إليه الباحث هو أن آفاق المعرفة الحديثة لم تزحزح الكتاب العرب بغض النظر عن توجهاتهم عن مواقفهم المذهبية القديمة، فجاءت كتاباتهم مخبرة عن خلفياتهم المرجعية الثقافية.
  •   وقد تعددت ألوان السيرة النبوية المكتوبة على أيدي الكتاب العرب المعاصرين متجاوزة بذلك صبغتها الإسلامية (شيعية كانت أم سنية) إلى صبغات ثقافية أخرى ليست ذات طابع إسلامي كمجموعة السير التي كتبها بعض المثقفين العرب من المسيحيين، أو تلك التي كتبها كتاب اعتنقوا الفكر القومي واجدين في أنموذج النبي سبيلا إلى استعادة المجد العربي المفقود.