عن مفهوم النبوة في الديانات السماوية

جلال النجفي

ارتبطت النبوة ارتباطا وثيقا بالديانات السماوية دون غيرها، فالنبي في العهد القديم هو شخص يتحدث نيابة عن الله، وهو في العهد الجديد شخص ينبئ باليقين من الأحداث الآتية التي لم تقع بعد، ولم يهتدى إليها بالوسائل الممكنة.

وتفيد الألفاظ الخاصة بالنبي في اللغات القديمة كالسريانية والآرامية والعبرية التي نقلت الكتب السماوية من خلالها معاني عديدة متعلقة بهذه اللفظة كالإنباء بالغيب، والإنذار، وهو أيضا في تلك اللغات يفيد معاني أخرى كالهداية إلى الطريق الواضح المستقيم، أي طريق الله.

فيما تكررت ألفاظ أخرى تفيد المعنى ذاته بصورة أخرى فقد وردت لفظة (الرسول) أو (المرسَل) بفتح السين وعلى صيغة المفعول، فقد استخدمت اللفظة في الكتب السماوية المقدسة الثلاث، ولو أنها عرفت في الدراسات اللاهوتية المسيحية دالة على تلاميذ السيد المسيح (عليه السلام) وهم اثنا عشر تلميذا اختارهم السيد المسيح وبعثهم في إرساليات خاصة للتبشير بدعوته وللحديث باسمه بين الناس.

أما ما غلب على الاستخدام القرآني للفظة الرسول فهو استخدام يشير إلى إنسان بعثه الله إلى الخلق لتبليغ الأحكام، وقد اختلف اللغويون في مسألة تحديد دلالة المَعْنيين (النبي والرسول) فذهب البعض إلى الترادف بينهما، والترادف هو مصطلح يطلق مجازاً على عدة استعمالات معروفة، أشهرها ما تواضع عليه علماء فقه اللغة من اطلاقه على كلمتين أو اكثر تشترك في الدلالة على معنى واحد. لان الكلمات قد تترادف على المعني الواحد أو المسمّى الواحد، كما يترادف الراكبان على الدابة الواحدة. وبهذا فالعلاقة في ذلك الاستعمال المجازي هي التشابه، حيث شُبهت الكلمتان في ترادفهما وتتابعهما ودلالتهما على المعنى الواحد بالراكبين وترادفهما علي الدابة الواحدة.

أما الرأي الآخر فيفرق بين النبي والرسول من خلال عدّ معنى كلمة الرسول أخص من معنى كلمة النبي، باختصاصه بالتبليغ للخلق، وبنزول جبرئيل (عليه السلام) وحياً بأمر الله، ومن خلال اختصاص الرسول بشريعة لم تكن سابقة قبل بعثته، أي أنه مختص بكتاب، وخلاصة القول أن كل رسول هو نبي.

 ومن الجدير بالذكر أن الكهانة التي عرفتها الأمم الشرقية ومنها العرب تختلف كلياً عن النبوة، فالكهانة هي: اتصال ناقص بالغيب، ولذلك يحاول الكاهن تعويض هذا النقص بالكلام المسجوع المتكلف، وبالزجر والفأل والسحر والشعوذة وغيرها. وكذا الحال بالنسبة للشعر والشاعر، فقد اتهم الأنبياء بالشعر ومنهم الرسول الأعظم (محمد عليه وعلى آله صلوات الله) فقذ رماه قومه بصفة الشاعر لغرض تكذيبه بكونه يمتح من معين الشعر الأرضي (الكاذب) لا من وحي السماء (الصادق)، وهم يعلمون بسليقتهم الفطرية أن القرآن غير الشعر، ولكنه عنادهم وإصرارهم على الكفر، وعلى الخلط بين غاية الهداية التي يريدها القرآن وغاية الغواية والإضلال التي يكون عليها الشعر.

وبالعودة إلى جوهر الموضوع يتضح لنا من خلال العرض السريع لكينونة النبي في الديانات الثلاث مجموعة ملاحظات سنضعها في خاتمة العرض الآتي:

  • في الديانة اليهودية كان النبي موسى (عليه السلام) الناطق باسم الرب العظيم عند بني إسرائيل (يهوه) وهو الوسيط بين الإله وشعبه المختار، وتحت قيادته تخلص بنو إسرائيل من قبضة الفراعنة الذين ساموهم سوء العذاب، وقد جرت عملية إعداد هذا النبي بعد مرحلة شاقة من الإعداد الذي شملته الرعاية الإلهية منذ طفولة النبي (موسى) عندما ألقي في النهر رضيعا مرورا بحياة التقشف وضنك العيش التي أسهمت في صياغة شخصيته كإنسان، وانتهاء بمرحلة تبليغه بالنبوة التي توجت شخصيته المتكاملة من خلال إضفاء عنصر الوحي الذي سيعدّه لمواجهة طاغوت الأرض (فرعون) الذي كان يضطهد (العبرانيين) قوم موسى ورهطه.

وكان الدور المنوط بالنبي موسى (ع) المحافظة على العهد بين الرب (يهوه) وبين بني إسرائيل الذين كانوا لا يترددون عن اقتراف المعاصي رغم النعم الكثيرة التي تفضل بها عليهم إله موسى، وهو نفس الدور الذي ظل منوطا بأنبياء بني إسرائيل الآخرين الذين بشروا بأنبياء آخرين قادمين لهداية البشر وتخليصهم من الآثام والحيرة والشرور في قادم السنين.

  •  ولم تعرف الديانة المسيحية أنبياء كثر لأنهم جعلوا من شخصية السيد المسيح الكشف الكلي والنهائي لمفهوم النبوة، على الرغم من أن الأناجيل على كثرتها لم تعطي صورة واضحة للسيد المسيح (ع) فهو مرة (إله) ومرة أخرى (ابن إله) وثالثة (إنسان نبي)، لكن هذه الأناجيل عدته مكملا لنبوة موسى، لكنه إكمال يتصف بالتجاوز والقطيعة مع الديانة اليهودية السابقة وهو ما كان بمثابة الصدمة لأحبار اليهود الذين عدّوا ذلك ثورة على قناعات شعب الله المختار، ولكن الحقيقة هي أن المسيح نفسه يعد نفسه نبيا وبشرا مخلوقا جاء مبشرا بالخلاص ومكملا لرسالة (موسى)، وبذلك يصرح القرآن الكريم في أكثر من موضع.
  •  أما في الإسلام فتختصر شخصية النبي الأعظم (محمد صلى الله عليه وآله وسلم) مفهوم النبوة من خلال القرآن الكريم، فهو نبي ورسول ضمن قائمة الأنبياء التي تبدأ بآدم وتنتهي به، وهو متمم لكل الرسالات السابقة ومكمل للمسيرة الحافلة التي بدأت بها النبوة وبه اختتمت، ولكن هناك مجموعة من الآراء التي أثارها الدارسين حول زمان بدء هذه النبوة، وهل يعود هذا الزمن إلى يوم تلقى الوحي من السماء، أم إلى يوم ولادته، أم إلى وقت قديم يعود إلى يوم تلقى البشارات؟ كما أثار الدارسون أسئلة أخرى تخص نبوته تتعلق بمدى خضوعه لتأثير الوحي، أهو تأثير دائم مستمر تجعل كل ما بدر منه من فعل وقول صادرين من الوحي وملزمين بالتالي لمن يتبعه، أم أن تأثير الوحي تأثير مؤقت يجعل من شخصيته خارج هذا التأثير واقعة ضمن دائرة الشخصية البشرية وما يمكن أن تتعرض له من ملابسات وإشكالات؟

وهكذا يتضح لنا أن النبوة في المفهوم الإسلامي صفة قائمة بالنفس، ومنصب جعله الله في أشخاص معينين ليكونوا مبلغين إلى خلقه ، وهم مصطفون لما تمتعوا به من صفات خاصة لا تتوافر في الآخرين، فالنبي بالغ مرتبة الكمال والسمو من خلال ثلاثة إدراكات هي ( قوة الإحساس، وقوة التخيل وقوة التعقل) ومن اجتمعت فيه هذه الخصال إلى جانب الوحي والتأييد بالمعجزات الموجبة للإقناع استحق الرياسة والسيادة على الناس دون استعلاء أو تكبر، وامتلك المعرفة التي لا تتوقف.

وبذلك فالنبوة أعلى مراحل السمو البشري، والنبي هو من بلغ أعلى المستويات البشرية ليتمكن من قيادة الأمة وإخراجها من الظلمات إلى النور، ولنتخيل حال الأمم المختلفة قبل بعثة الأنبياء، فالعرب قوم محمد كانوا قبل بعثته يئدون البنات ويشربون الخمور، ويقتل القوي منهم الضعيف، وتنهش القبائل بعضها بعضا، وما هي إلا أعوام قليلة بعد بعثته حتى جعل منهم أمة تصنع التاريخ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وستظل مكانتها مرموقة ما إن التزمت بكتاب محمد وصدقت نبوته ودافعت عن أفكاره وتعاليمه العظيمة.