القراءة الاستشراقية المحايدة لمدوّنة الحديث الشيعيّة.. أندريه نيومان مثالاً

الدكتور هاشم الموسوي

كأي مؤسسة فكرية أخرى في البلدان الديمقراطية لا تخضع المؤسسة الاستشراقية - لا سيما في العقود الخمس الأخيرة - الى قوانين وقيود تكره الباحثين على تبني وجهات نظر محددة، مع أن النسق العام الذي يؤطر هذه المؤسسة قائم على مبادئ وأصول ثابتة كالنزعة التبشيرية، ومحاولة خلق الفتن والاختلافات بين أهل الشرق وطوائفه، وتوسيع هوة الاختلاف بين أهل الأديان، وحتى أهل الدين الواحد عن طريق الفحص الدقيق لتاريخ المنطقة الطويل ومعرفة الثغرات التاريخية القابلة للإحياء وإعادة البعث من جديد.

ولعل ما يمنع القائمين على مؤسسات الاستشراق من إجبار الباحثين العاملين ضمن هذا النطاق هو أن هذه المؤسسات ينتظمها طابع حرية الفكر وهو الطابع الذي عرفته أوربا منذ انبثاق عصر التنوير والحداثة قبل قرنين من الزمان، ومن سمات هذا العصر حرية الفكر واحترام الآراء الأخرى حتى لو كانت ضد الحكومات والمنظمات والمؤسسات المرتبطة بالحكومات، وهذا لا يعني أيضا أن كل المستشرقين ليسوا مخلصين الى المؤسسة التي ينتمون اليها، ولكن يعني أن بعض المستشرقين وان كان مخلصا لنسق الاستشراق واهدافه قد يحتكم الى ضميره الانساني والى الحقيقة المعرفية التي تدخل مجال اختصاصه العلمي.

ويأتي المستشرق البريطاني (أندريه نيومان) المتخصص بالدراسات الشيعية وبتاريخ ايران والمنطقة المحاذية لها مثالاً على المستشرق المخلص للحقيقة على حساب ما سواها من مصالح، ويدير هذا المستشرق موقعا هو الاكبر بالمواقع التي تعرف بالمصادر والمتون الاخبارية والفقهية والحديثية الشيعية نسبة الى علم الحديث، ولهذا المستشرق ثلاثة كتب مطبوعة هي (الشيعة الاثني عشرية ، الوحدة والاختلاف في مسار الاسلام) وكتاب (ايران في عهد الصفويين) وكتاب (الحقبة التأسيسية للتشيع الاثني عشري، خطاب الحديث بين قم وبغداد) الذي نقله الى العربية الدكتور (علي زهير) وطبعته مؤسسة دراسات فكرية في جامعة الكوفة، وهو ما سنعتمد عليه لبيان اهم اراء هذا المستشرق المنصف.

وقد ظهر في منتصف القرن الماضي اهتماما جيدا بالفكر الشيعي الإمامي الذي اهملته الدراسات الاستشراقية القديمة ولم تقدّم صورة ما لهُ الا عن طريق الرواية السنّية التي تنظر اليه مجرد انشقاق داخل الجسد الاسلامي! وقد زاد هذا الاهتمام الملحوظ بعد نجاح ثورة ايران الاسلامية سنة 1979م.

ولعل ادخال المذهب الامامي سيرة الائمة المعصومين ضمن مصادر التشريع الاسلامي هو ما جعل دوائر الغرب الاستشراقية تعيد النظر حول هذا المذهب بغية متابعة تطور المسار الفكري للفقه الاسلامي.

ويسلط (نيومان) اضواءه الكاشفة على ان موقف الشيعة الامامية من اصل التشريع في الاسلام هو موقف متطور عن موقف اهل السنة، حينما حددوا هذه الاصول بالقران والسنّة والاجماع والقياس، فالإمامية لم يحصروا مفهوم السنة بسيرة الرسول الاكرم وسلوكياته وتصرفاته اثناء فترة حياته فحسب، وانما هي سنّة ممتدة بعد رحيل الرسول الاكرم في اهل بيته من الائمة الاثني عشر الذين نص عليهم الله في كتابه ووصى بهم الرسول في اكثر من حديث صحيح، وكان للشيعة الامامية طريقتهم الخاصة في حفظ الاحاديث عن طريق الرواية المشروطة.

اعتمد نيومن في كتابه هذا على البحث المقارن من اجل الوقوف على ثلاثة مجاميع روائية شيعية مبكرة هي كتاب المحاسن للبرقي المتوفى 274هجري وكتاب بصائر الدرجات للصفار القمي المتوفى 290هجري والكتابان صنّفا بمدينة قم التي كانت بمثابة قلعة المعارضة لحكم بني العباس المعروف بالجور وبمطاردة اتباع اهل البيت، أما الكتاب الثالث فهو كتاب الكافي للكليني المتوفي 329 وقد صنّف الكتاب في بغداد التي يرسم نيومن لها صورة تاريخية دقيقة لا تقل دقة عن صورة مدينة قم التي كانت معقلاً للقبائل العربية الهاربة من ظلم العباسيين والمحبة لأهل البيت كالأشعريين وبنو نوبخت وغيرهم من بني أسد ومن القبائل الأخرى. وقد اتخذت من هذه المدينة المحصنة بين مجموعة من الجبال مكانا يصعب اقتحامه في ظل وسائل الحروب القديمة.

وينتهي الى ان متون الحديث الشيعية في حقبة التأسيس الاولى لهذا المذهب قد سارت في اتجاهين مختلفين ولكن احدهما يكمل الاخر ولا غنى لاحدهما عن الاخر ايضا، وهذان الاتجاهان هما اتجاه ذو نهج اصولي يغلب النظر على الرواية متخذاً من مدينة بغداد مكاناً لنشر افكاره والترويج لها، وكان أصحاب هذا التيار يدخلون في خلافات مع السلطة العباسية التي تريد تسخير العلم والعلماء لصالح حكامها الجائرين الذين تسببوا بإفقار الناس نتيجة للضغوطات الاقتصادية التي تلقيها الحكومة على كاهل المواطن العادي وارتفاع نسبة الضرائب وسوى ذلك من أمور أخرى.

أما الاتجاه الثاني فيرى نيومن انه انطلق من مدينة (قم) المعروفة بتمنعها على الحكومات العباسية التي اختلفت درجة موقفها من أهل البيت بين الانفراج والانغلاق بحسب الحاكم وموقفه من أهل البيت عليهم السلام بوصفهم ورثة النبي وحملة علومه، وهذه منزلة سعى العباسيون قاطبة للاستئثار بها في كل زمن وعند كل حاكم. ولعل الظروف الخاصة التي عاشتها مدينة قم في القرنين الثالث والرابع الهجري جعلت مدرسة قم اقرب الى التقيد بالأخبار وبالنقل على حساب العقل الذي رأوا فيه امكانية ان يقود الى الضلال احياناً وان الالتزام بالرواية الصحيحة هو وسيلة من وسائل إلجام العقل وثنْيه عن الشك والسؤال الذي قد ينتهي الى الفتن.

ويجد القارئ عند العودة لآراء هذا المستشرق التي ينقلها كتابه المذكور لنا جرأة في الطرح ودقة علمية نادرة، فمثل هذا الموضوع وفي مثل تلك الحقبة الزمنية الغامضة من الصعب أن تصل الى ما توصل اليه (نيومن) من استنتاجات لخصناها لكم، وأكدت قيمة أن ينظر المستشرق الى موضوعه بكل حيادية وبكل شرف.