! حينما يكون النقد بوابة للحوار والشراكة الثقافية

قراءة في كتاب أكاديمي جديد

د. علي ياسين

يحتل الدكتور عبد العظيم السلطاني (أستاذ الأدب ومناهجه ونظرياته الحديثة في جامعة بابل) موقعا متميزا ضمن النخب العربية المفكرة بما عرف عنه من اطلاع واسع على نظريات الخطاب وتحليلاته الممكنة، وبما تشهد له الساحة الثقافية والعربية من حضور لافت تؤكده مجموعة كتبه السبعة (المهمة) التي أكدت أهمية حضور النقد لمراجعة أنواع الخطابات المختلفة، ولتعزيز روح الاختلاف والشراكة الثقافية والاجتماعية في مجتمعات اعتادت على الصوت الأحادي المتسلط والمستبد، هذا فضلا عن عشرات البحوث والمقالات التي كتبها مدفوعا برغبة تحديث الرؤى والمناهج لمواكبة روح العصر الآخذ بقفزات من التطور لا يمكن التنبؤ بمآلاتها.

ينتهي السلطاني في كتاب سابق عنوانه: (مقاربات في تنظير نقد النقد الأدبي) إلى أن تنشيط دور النقد في حياتنا الثقافية لا يكتمل إلا بالحوار وإلا بانفتاح الذات على الآخر، وإلا بانخراط النخب الثقافية في الهم المجتمعي، ويحاول في كتابه الأخير (نقد النقد الثقافي، رؤية في مساءلة المفاهيم والضبط المعرفي، 2021م) الذي نعرض محاوره المهمة بإيجاز شديد أن يحقق مجموعة أهداف يرسمها، لعل أبرزها مقاومة الرداءة الثقافية التي تقع بأحابيلها النخب الثقافية والأكاديمية عندما تسيء فهم الواقع وقراءته بعيدا عن مجموعة الأبنية التي تنظم هذا الواقع وحركة الناس فيه، ومنها محاولة إعادة البوصلة المنحرفة للدراسات العربية المتكاثرة التي تنسب نفسها للدراسات الثقافية دون إلمام، لا بضوابط هذا الحقل الجديد، ولا باشتراطاته المعرفية باتجاه مسارها الصحيح، ولذلك يسعى هذا الكتاب لكي يكون (محاولة في وضع أطر معينة لمفاهيم أساسية وإيجاد منطلقات مساعدة تسعى إلى إخراج النقد الثقافي من الهلامية والاستنتاجات المبنية على مجرد تصورات... ) (مقدمة الكتاب ص12).

- يتمفصل الكتاب إلى عدة محاور نظرية وتطبيقية لا يمكن الإحاطة بها من خلال هذه الإلمامة السريعة بمنجز الرجل، وقد قسمت الدراسة إلى ثلاثة فصول يسبقها تمهيد يوضح التنافذ والتقاطع بين النقد الثقافي والدراسات الثقافية، وفصل أول يبحث منطق الانسجام في منطلقات نقد النقد الثقافي وإجراءاته، وفصل ثان تطبيقي عملي يسائل كتب المناهج المدرسية العراقية باشتمالها على ظاهرة التمييز الجنوسي ضد المرأة باعتبار الظاهرة جزءا من مشاكل عميقة تتصل بجذور لها في الثقافة العربية الاجتماعيّة.

 وفصل ثالث تطبيقي يبحث تحولات الأنساق الثقافية وثقافة الاعتراف عند السيّاب في مدونته التي هاجم من خلالها الشيوعيين واصفا إياهم بأبشع النعوت والأوصاف، ولعل خطاب التمييز الجنوسي في المناهج الدراسية العراقية، والخطاب الذي حفلت به مدونة السياب هما من خارج ترسيمات الغذامي ولكنهما صالحان كنموذجين للاشتغال المعرفي على وفق الآلية التي يوظفها النقد الثقافي حينما يحول النقد إلى ماكنة ضخمة قادرة على قضم النصوص والخطابات والممارسات الثقافية الدالة داخل المجتمع، وتحليل كلّ ذلك وإرجاعه إلى جذوره وتعليل صوره وتركيباته المتعددة والمختلفة التي يكون عليها كحامل ثقافي ومحمول ثقافي بحاجة إلى دراسة متأنيه تكسف عن أنساقه وأنظمته الخاصة.

-فلما كان الغذامي رائد النقد الثقافي العربي ومتبني فرضياته في كتابه (النقد الثقافي) قد حاول تفكيك ما رآه خللا تسرب إلى الجمالي واندس بين طيّاته، فعندما يقول مثلا: ( لقد أدى النقد الأدبي دورا مهما في الوقوف على جماليات النصوص، وفي تدريبنا على تذوّق الجمال وتقبل الجميل النصوصي، ولكن النقد الأدبي مع هذا وعلى الرغم من هذا أو بسببه، أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقيّة المختبئة من تحت عباءة الجمالي الشعري والبلاغي حتى صار نموذجا سلوكيّا يتحكم فينا ذهنيا وعمليا، وحتى صارت نماذجنا الراقية –بلاغيا- هي مصادر الخلل النسقي...) (النقد الثقافي، الغذامي،بيروت،2000م، ص15) فهو ينطلق من مسلمة بحاجة إلى المراجعة والتصويب - بحسب السلطاني- فهو -أي الغذامي- يرى أنه آن الأوان للنقد الثقافي أن يكف عن مهمة النقد الأدبي ووظيفته التي لمح إليها مستوجبا على الناقد الثقافي الالتزام بترسيمات معينة تمثلت بضرورة أن يعيد تركيب أجهزته المعرفيّة وأدواته النقدية لكي يجهد نفسه بغية التفتيش عن نسق (قبحي) مضمر يناقض الظاهر المتحقق في نص ظاهره جميل، ولا ينتمي للأدب الرسمي المعتاد قدر انتمائه للجمهور الذي يحتفل به (ينظر نقد النقد الثقافي، ص 76-78)، وسوى ذلك من اشتراطات ألزم بها نفسه، ومن يريد الاشتغال على وفق نظريته التي تبناها كتابه (النقد الثقافي) والتي حددت مفهوم النسق الثقافي عند الغذّامي بأنّه: عنصر مضمر في الخطاب ولا شعوري، ليس في وعي المؤلف أو القارئ لكونه نسقا ثقافيا لم يكتبه أحد ما، وهو موجود بفعل التراكم والتواتر اللذين جعلاه متلبسا بالخطاب وبمن يتعاطى الخطاب من مؤلفين وقراء (ينظر النقد الثقافي، ص 71).

-يقوم جوهر كتاب السلطاني (التطبيقي) على دحض هذه المسلمة الغذاميّة مؤكدا طبيعة النقد السجالية والمرتكزة على المشاكسة المعرفيّة، وانطلاقا من كون النقد الثقافي شكلا من أشكال المعرفة (ما بعد الحداثيّة) المحتاجة باستمرار إلى مساءلة المفاهيم التي بنت وجوده (ينظر، ص11) أما اشتراطات الغذامي وترسيماته فلا يقنع بها الدكتور السلطاني لأنها ستضيّق من مساحة النقد الثقافي وتقزم إمكاناته، لأن الغذامي عندما أوكل للنقد الثقافي مهمة البحث والتفتيش عن نسق مضمر على ما يحمله الخطاب؛ فهو -بحسب السلطاني- قد أغفل نسقا آخر خفيا محركا للخطاب ومنتجا له، وبذلك تتاح للناقد الثقافي إمكانية البحث عن نسق (غير قبحي) يناقض ظاهر خطابه!

ولكي تكتسب منطلقات السلطاني التصورية مصداقيتها وكفاءتها فقد حاول إدخالها ضمن نسيج منهجه عبر البحث عن بديل لنسق غير قبحي ليبرهن على قدرة النقد الثقافي على تطوير جهازه المفاهيمي وتوسيع اشتغاله وآليّاته الإجرائيّة من خلال دراستين تطبيقيتين كانت أولاهما في الفصل الثاني من كتابه بعنوان: التمييز الجنوسي  ضد المراة في الخطاب التربوي المعاصر، وفحص تجلياته من خلال اللغة والثقافة، أما هذا الخطاب الذي خضع للتحليل فهو تسعة عشر كتابا مقررا من مقررات وزارة التربية العراقية في مناهج التعليم الابتدائي والثانوي ( ينظر، ص 116)، ومن المعلوم أن هذه المناهج ليست من الخطابات الجمالية التي أوجبها الغذّامي لسلامة التحليل الثقافي 

وفي الفصل الأخير من الكتاب حاول السلطاني أن يبرهن على افتقار مفهوم النسق عند الغذّامي للضبط المعرفي، وقابليته للتعديل من خلال قراءته مدونة لا تشتمل على بعد جمالي إبداعي، وهي مدونة السياب ذات الطبيعة الإخبارية أو اعترافاته المسماة (كنت شيوعياً) التي كتبها منفعلا وغاضبا ومنكّلا بالشيوعيين، ولم تتضمن هذه المدوّنة أية مسحة كتابية ذات بعد جمالي تثير المتلقي، وتمنحها سمة الدخول لترسيمات الغذامي المشار إليها آنفا، والذي -ربما- غاب عنه أن النقد الثقافي يهتم بالنصوص المختلفة باحثا عن السياقات المشكّلة للمنتوج الثقافي لهذه النصوص المختلفة على صورتها النهائية .

يؤكد الكتاب خصوبة العقل النقدي العراقي وقدرته على مواكبة المناهج البحثية الجديدة في حقل العلوم الإنسانية، من خلال الاطلاع على المنجز المعرفي الأوربي في هذا الحقل، ومحاولة غربلته وتمثلّه معرفيا لتوظيفه بما يلائم الواقع العربي المحلي، وبهدف تأكيد قيمة النقد الثقافي كممارسة معرفية تحاول أن تدلّ على ما في الواقع من زيف وتحريف وخداع وثقافة مضللة.