العولمة: ماهيتها وأهدافها ومقاصدها

البروفيسور علي عبد فتوني/ لبنان

دخل مصطلح العولمة الى التداول السياسي والاقتصادي والفكري بقوة بعد انهيار الإتحاد السوفياتي خصوصا" ، والسعي المحموم لتشكيل عالم القطب الواحد . وبدأ يتدفق علينا من كل حدب وصوب ، خطابات متنوعة المستويات عن العولمة ، تسيطر عليها عبارات وأوصاف ومصطلحات من النوع التالي : ثورة المعلوماتية الكونية ، ثورة الاتصالات والمواصلات الفائقة السرعة ، أوتوستراد المعلوماتية ، تسارع حركة التبادل التجاري وتضخم حجمها بأرقام فلكية على مستوى العالم كله ، الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات ، التدفق الهائل للصور والتعليقات والأخبار والرسوم  ، هذا التدفق الآتي عبر الشاشات من جميع الأنواع والأحجام ومن كل مكان ، وتكنولوجيا الأقمار الاصطناعية ، تصاعد التشابك والترابط والتداخل بين الدول والمجتمعات والثقافات والتفاعل بينها .

العولمة لفظ مستحدث، ولذلك يعتبر من المصطلحات الجديدة، يقتضي شرحا" بين ماهيته وأهدافه ومقاصده التي يسعى واضعوه للوصول إليها. ويقتضي النظر فيه، لا كما يطرحه ويروج له واضعوه ومهندسوه بل كما يقتضي اعتباره مشروعا" شرعوا بتطبيقه ويراد له أن يعم العالم بأسره ويقيد الحركة السياسية والاقتصادية والثقافية العالمية بقوانين وأنظمة ومواثيق ومعاهدات تنفرد بصياغتها أميركا وتوافق عليها معها أوروبا، ومن ثم تخضع لأحكامها الدول التي تدور في فلكهما أو التابعة لهما التي لا تملك من أسباب ووسائل القوة ما يجعلها قادرة على الصمود والمجابهة.

ولذا، فإن العولمة هذه اللفظة، تحجب ما تخفيه لتحقيق ما تنطوي عليه فهي أسم مستحدث في اللغة الإنكليزية أو الفرنسية منذ سنوات، وهي لا تطلق لوصف شيء بأنه عالمي لوجوده أو تحقيقه في معظم أنحاء العالم، بل لتعيين أن فاعلا" أو فاعلين أو دولة أو دولتين أو شركة أو شركتين، أرادوا جعل هذا المسمى أو هذا الشيء عالميا".

يعني هذا أن حركة العولمة المتفاقمة ونظامها الآخذ في التبلور لا يسمحان بحدوث تنمية حقيقية وبمعالجة جدية لمعضلات التخلف المعروفة إلا ضمن حدود معينة وفي بلدان محددة وفي مناطق منتقاة لهذا الغرض على سطح الكرة الأرضية كلها. بعبارة أخرى تبقى عملية نقل دائرة الإنتاج الى الأطراف محكومة بسقوف متفاوتة الارتفاع، وفقا" للظروف والأحوال، ومضبوطة بضوابط متنوعة ومتبدلة وفقا" للمصالح والأوضاع. أي لا تقدم العولمة ضمانات مؤكدة لحدوث تنمية حقيقية وجدية من ناحية دون أن يعني ذلك أن كل محاولة تنمية جدية في ظل شروطها هي من قبيل التنمية المستحيلة، كما كانت تقول نظرية التبعية من ناحية ثانية.

والعولمة الراهنة تمس بفعلها المباشر وغير المباشر كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العلمية والتقنية الثقافية والفكرية والسياسية والإعلامية والعسكرية والحقوقية على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية في آن واحد، وبتعبير أدق، أنها تمس كل جوانب الحياة الدولية، كما تمس حياة واقتصاديات البلدان الرأسمالية المتطورة، والبلدان النامية، وكذلك البلدان التي تقف على عتبة التحول في آن واحد.

 والعولمة تجسد في الوقت نفسه، وتؤكد، رغم كونها توحد عملية إعادة الإنتاج الدولية، انقسام العالم وأكثر من أي وقت مضى الى عالمين متضادين ومتصارعين، عالم غني ومتخم عالم فقير وجائع، عالم المراكز المتقدمة والأطراف أو دول المحيط المتخلفة.

إن الثورة العلمية - التقنية التي عجلت بعملية العولمة الجارية وضعت تحت تصرفها إمكانيات هائلة في مجال الاتصالات والإعلام ونشر الثقافة الغربية ، الأنكلو- سكسونية بشكل خاص ، في جميع أرجاء العالم ، مقترنة بمحاولات وأساليب غير مقبولة لفرض تلك الثقافة على شعوب البلدان الأخرى ، خاصة وأن تلك الشركات المهيمنة على الأعمال الثقافية والفنية ، وعلى الصحافة والتلفزيون ، والكثير من وسائل الإعلام الدولية ، وهي من نوع الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية ، حيث تلعب احتكارات الولايات المتحدة الأميركية  سياستها دورا" مهيمنا" فيها . وتثير هذه العملية مشاعر الناس وتجعلهم يواجهون محاولات تبذل لتغيير هويتهم الثقافية أو مسخها، مما يدفعهم الى مقاومتها.

فالتحركات الدينية والقومية تعتبر بشكل ما، وبعد انتهاء الحرب الباردة على النطاق الدولي، تمردا" ومحاولة لمقاومة بعض عواقب العولمة على اقتصاديات وشعوب هذه البلدان، ومنها نهب اقتصاداتها واستغلال شعوبها ودفعها الى حافة الجوع والحرمان، إضافة الى  محاولة مسخ هويتها الثقافية، ممارسة أساليب وأدوات غير مقبولة، وذات اتجاهات خطرة، ومضرة جدا" بمجمل نضال شعوب البلدان النامية، وتشويه أهدافها النبيلة.