ظاهرة العنف وبراءة الإسلام الحقيقي منها

اسراء عزيز الربيعي

يعرف علماء الاجتماع العنف بأنه (سلوك معيب وسيء يسوغ له أصحابه الأخذ به منهجا وأسوبا في الحياة ويعدونه وسيلة لتحقيق أهدافهم في إخضاع الآخرين بطريقة غير عقلانية غالبا، أو هو فعل همجي يمارسه أحد ما أو مجموعة ما ضد من يظن أو يظنون أن المقصود هو سبب شقائه أو شقائهم)

ومن وجهة نظر فلسفية خالصة وقبل الدفاع عن الاسلام الذي لا يحتاج عمن يدافع عنه لأنه نظام كوني متكامل؛ يدرك الناس كلهم أن السلم هو أساس وجود البشرية كتجمعات مستعدة لعيش مشترك، وهو قانون الحياة الطبيعي ، فالإنسان هو سيد الطبيعة وهو الكائن المدرك الذي عززت الأديان والمعارف والفلسفات الجانب القيمي لديه وكان من المفترض قبل خلقه أن يكون خليفة الله على ارضه.

غير أن ما سجله الوجود البشري على الأرض وما أثبتته الوقائع من حروب وشرور وقتل وتشريد وإبادات جماعية للأبرياء والأطفال سينسف هذه النظرة الفلسفية الخالصة التي تميل الى ان الانسان كائن مسالم بطبعه، فالتاريخ البشري ومنذ وجود أول إنسان على هذه الأرض يشهد بارتكاب المجازر والحروب، وها هو القرآن الكريم يحدثنا في مواضع كثيرة وبرمزية قلّ نظيرها عن أن الإنسان فيه ميل للشر والعنف مثلما فيه ميل للسلم والموادعة فقد قتل قابيل ابن أبينا آدم أخاه هابيل في لحظة مجنونة ندم بعدها طيلة حياته.

ورغم أن أبواق الاعلام الغربي تروج لفكرة أن العنف إسلامي الجذور ومصدره آيات في القرآن الكريم تحث على قتل أعداء المسلمين بشراسة متناسين أن الإنجيل يصرح قائلا (ملعون من يمنع سيفه عن سكب الدم)، ورغم محاولات الإعلام الغربي الفاشلة فإن المرور السريع على ما جرى ويجري في العالم أمس واليوم وغدا في مجتمعات ليست إسلامية ولا تعرف عن القرآن الكريم شيئا يثبت أن ظاهرة العنف ظاهرة موجودة مع وجود الإنسان على هذا الكوكب، وإن الحروب بين البشر هي بمثابة الداينمو الذي يحرك البشر نحو الحضارة والتحضر والسيادة التي هي مطلب إنساني، وإليكم بعض الشواهد، وهي كلها من خارج المجتمع الاسلامي، وليست مرتبطة بالدين الذي يتهمه بعض علماء الاجتماع زورا وبهتانا بإنه عامل أساس من عوامل تذكية العداوات بين أبناء البشر لأسباب ذا منشأ ديني ..

في التاريخ القديم تحدثنا الشواهد عن المجازر التي ارتكبها الإسكندر في غزوه للعالم القديم من أوربا حتى الصين وكيف أنه استباح المدن وأرعب الأهالي وأذاق الرجال والشبان ذل الهوان واستحيى النساء هو وجيوشه الجرارة للخدمة والاستمتاع بلا وازع من ضمير، ثم مات فسجله التاريخ الأوربي على أنه أول الفاتحين الذين يريدون تعليم الانسانية المساواة والحرية والتحضر.

وهل تنسى البشرية ما فعلته الدولة الرومانية حينما اعتنقت المسيحية دينا رسميا للدولة وما فعلته من مجازر وإبادات في المدن والقرى التي توانت عن اتباع مذهب الكنيسة التي دانت على وفق دينها الدولة الرومانية؟

وماذا لو استذكرنا ما فعلته الحروب الصليبية وما تسبب بسببها من كوارث وإبادة ومجازر وحصار جعل الناس المسالمين في يافا وعكا والقدس يأكلون القطط والكلاب بل ويأكلون جثث الموتى بسبب هذا الحصار القادم باسم التحرير والعدالة والتحضر،

أما في العصر الحديث فشواهد غزو نابليون لمصر معروفة للقاصي والداني ومجازره في الاسكندرية والقاهرة والصعيد وفي مدن الشام الساحلية مسجلة كمذكرات باسم ضباط الحملة الفرنسية ممن رافقوه في غزو مصر، وهي مذكرات مترجمة لأكثر من لغة عالمية ومطبوعة عدة مرات..

والقائمة طويلة ولكننا نختصرها بجرائم محاكم التفتيش في اسبانيا التي مورست ضد المورسيكيين الأبرياء بتهمة كونهم مسلمين أو متعاطفين مع المسلمين مرورا بطقوس ذبح البشر وأكل الأطفال التي لا زالت تمارس في بعض البلدان الأفريقية غير المسلمة حتى يومنا هذا، وما شهدته فرنسا من مذابح في الثورة الفرنسية الكبرى، فضلا عما شهدته روسيا وبريطانيا من مجازر ومطاحن بسبب الثورات وبسبب محاولات تغيير الأنظمة السياسية بقوة السلاح، ومرورا بما فعله الخمير الحمر من عنف ممنهج ضد مناوئيهم وما ارتكب في كمبوديا من إزهاق لأرواح الملايين من البشر بحجة الحفاظ على نظام الحكم في ذلك البلد، ولن أحدثكم عن الغزو الأمريكي للعراق ولفيتنام قبلها وما نجم عن مشاكل وقتل للأبرياء العزل.

وخلاصة القول إن كل بقعة من هذه الأرض رويت من دم الانسان، ولا توجد أرض بما في ذلك قارة أمريكا الجنوبية التي كان علماء التاريخ يظنون أنها أرض السعادة والسلام التي لم تعرف الدم الا مع الاحتلال الاسباني قبل خمسة قرون، وها هي المنقوشات والدلائل التاريخية المكتشفة حديثا في الاكوادور وتشيلي وأورغواي تثبت أن تاريخ أمريكا الجنوبية هو تاريخ مكتوب بالدم والقتل والصراع بين قبائل هذه القارة وبين شعوبها التي لم تتوقف عن النزاع يوما ما، والسؤال هو ما سبب هذه الشرور عند الإنسان(لا عند المسلمين وحدهم كما يصور الاعلام الغربي) وما هو الأصل الثقافي للعنف البشري؟

وهذا سؤال كبير بحاجة الى مؤلفات يكتبها مختصون بعلوم البايلوجيا والاجتماع والنفس والانثربولوجيا للإجابة عنه، فالإنسان لغز من الألغاز وسر من الأسرار، وقد اثبتت الدراسات الحديثة في بايلوجيا الإنسان إن هذا الكائن هو كائن أقرب إلى العنف منه إلى السلم بما يحمله من ميكانزمات جينية (آليات موروثة) لا يتحكم بها الفرد، لأنها أصلا مكونات ذات نزوع طبيعي للعنف في الأنسان موجودة ضمن حدود تكوينه النفسي والبايلوجي، وهي مكونات من الممكن ترويضها بالتربية الروحية والاخلاقية، بل ومن الممكن استثمارها لتكون طاقة خلاقة للإبداع والتحضر والخلق الإنساني الرفيع، وجلّ من قال في محكم كتابه ((ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها)) فقدم الفجور على التقوى لأنه الأصل في هذه النفس البشرية ثم عاد فقدم الفلاح على الخيبة وهو ما ينجم عن تربية النفس وتهذيبها بقصد استثمار طاقتها الايجابية الكامنة وتعطيل طاقتها السلبية الكامنة أيضا.

إن للعنف أصوله الفطرية الموجودة بالتساوي بين كل أفراد البشرية تقريبا فلا تزكى نفس عن نفس مهما كانت الشروط التي قد تختلف بعد التربية (والتزكية) بالمصطلح القرآني، والعنف من صميم التجربة البشرية، أما ما يتهمنا به الغرب من ميل فطري للعنف عززته تغذية دينية قرآنية فهو مرفوض ومغلوط، وما يحصل من شواهد عنف في منطقتنا العربية والاسلامية دليل على أن الدين لم يكن العامل الأول للدموية والعنف، فهل كان الحاكم الجلاد (صدام حسين) وحزبه بحروبه ودمويّته متديناً يوماً، أو مؤمناً بما جاء به القرآن!!

وختاماً نقول ان العنف يفترض أن هناك عدو يجب الانقضاض عليه والاقتصاص منه، واذا ما توفر هذا العدو أو إذا ما تمت صناعته فيفترض أن  تتوفر ثلاثة عناصر هي (الايدلوجيا، وصناع الرأي، وآليات الصعود نحو العنف) وهو ما يحدث في منطقتنا هذه الأيام وما علينا إلا الحذر كل الحذر لما يحاك لتمزيقنا واستعبادنا بشتى الوسائل.