الخارجون عن النسق! ليون روشيه.. ثلاثة عقود في رحاب الاسلام

د.هاشم الموسوي

ظل الاستشراق مرتبطا بالنشاط الاستعماري الغربي ومشاريعه في الهيمنة والتسلط وفرض الإرادات والثقافات، ومع هذا فقد خرجت مجموعة كبيرة من المستشرقين عن النسق الفكري المتحكم في العجلة الاستعمارية، وباتت هذه المجموعة تحاول الاشتغال لمصلحتها الخاصة ولحبها للحقيقية وحدها متحملة بذلك مواجهة ظروف العيش الصعبة في ظل الابتعاد عن الرابط الاستعماري (الحكومي)  الذي يمول أنشطة الاستشراق في أوربا ويغدق العطاء للمشتغلين في هذا المجال على ضوء الاهداف والغايات المرسومة سلفا.

ومن المعروف أن المستشرقين الغربيين قد أهتموا في دراسة الشرق والاحاطة في تفاصيله كافة، وباتت دراسات الاستشراق من الأهمية بحيث أضحت مراجع معلوماتية مهمة حتى للمسلمين وللشرقيين من غير المسلمين لما لها من الاهمية والندرة والاحاطة، وبالرغم من أن من بين هذه الدراسات المزيف المشبوه المكتوب بنية مغرضة ولكن منه الجاد النزيه ذي النزعة العلمية الواضحة، ومنها الصادق الذي يعد وثيقة صريحة للدراسات غير المتحيزة التي كتبها غير المسلمين عن المسلمين أنفسهم.

ولعل الفرنسي (ليون روشيه) واحدا من المستشرقين الذين لم تنطل عليهم ألاعيب الحكومات الغربية ولم يفلتوا من مساءلة العقل والضمير بعد أن تعرفوا على الاسلام وأهله من خلال المعاشرة المباشرة ومن خلال المثاقفة الجادة واللصيقة للغة العربية ولقرآنها العظيم وللشرايع والفقه والإرث الحضاري للمسلمين الذين خالطهم روشيه وافتتن بآدابهم وعلومهم وحبهم للحقيقة والفضيلة التي رآها غادرت أوربا إلى غير رجعة.

وليون روشيه (1809- 1901م) مولود بفرنسا لكنه غادر ليون فرنسا في 30 يونيو 1832 للانضمام إلى والده الذي حصل على مزرعة في الجزائر أيام الاحتلال الفرنسي لها، ومكث في القارة الأفريقية طيلة 32 عاما ما بين بلدان المغرب العربي والصحراء الافريقية التي عشقها عشقا خارقا وأحب طريقة حياة اهلها ، وقد  تعلم ليون خلال رحلاته تلك  اللغة العربية وأتقنها بسرعة كبيرة كتابة وقراءة، وبعد عامين تم تجنيده كمترجم للجيش الفرنسي في أفريقيا. ثم أصبح (ملازما) في سلاح الفرسان للحرس الوطني الجزائري، بين 1835-1839. ثم طلب منه الجنرال (بيجو) التفاوض مع الأمير عبد القادر الجزائري لوقف القتال مع الفرنسيين، وقد حظي روشيه باحترام كبير من قبل مشايخ العرب رغم ما أشيع عنه من أنه جاسوس يتظاهر بحبّه للاسلام والمسلمين، ولكن الوقائع الأخرى وزيارته للبيت العتيق تثبت ما هو خلاف ذلك.

في عام 1845، وبتوصية من الجنرال بيجو، انضم روشيه لوزارة الخارجية الفرنسية كمترجم، وفي عام 1846 أصبح مندوبا رسميا(سكرتيرا مفوضا) في مدينة طنجة المغربية، وبعد ذلك تولى مسؤوليات البعثة الفرنسية في المغرب الأقصى، أما في بدايات خدمة (ليون روشيه) بالحرس الوطني في الجزائر فقد قادته الصدفة إلى التعرف على (خديجة) الجزائرية المسلمة, واضطر (ليون روشيه)  بدواعي رغبته في الزواج منها إلى إعلان إسلامه أمام الملأ، ليتصل بعدها بالشيخ عبد القادر أمير المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي آنذاك، وليعيش في مليانة مجندا نفسه  في خدمة الأمير عبد القادر الجزائري، حتى غدا أحد كتابه المترجمين العاملين معه, ويكشف ليون روشيه من دون قصد عن مهمته الاستخبارية حين قال للأمير: انه كان يأمل أن يحقق لبلاده فرنسا استسلام الجزائريين، وذلك بأن يقنع عبد القادر بأن السلام مع فرنسا أميز وأوفق وأكثر نفعا للمؤمنين الجزائريين الذين تمرغوا في همجية سوء الحكم التركي وبؤس إدارته، ولا يستطيعون في الوقت نفسه –أي الجزائريون- مواجهة دولة عظمى كفرنسا, ولكن الكتاب الذي تركه هذا المستشرق كفيل برفع اللبس عنه وعن صورة الإسلام وصورة المسلمين في أعماق نفسه، ولعل السؤال الذي يتبادر الى الأذهان كيف أن قائدا وطنيا بحجم الشيخ عبد القادر يرتضي لنفسه ان يعين جاسوسا مالم يتأكد من حسن نواياه ومن صدق إسلامه؟؟

وقبل الحديث عن الكتاب يجب أن نوضح أن الكتاب في الأصل هو مذكرات كتبها هذا الرجل في الأمصار الاسلامية وليس من كتب الرحلات، لذلك تتردد بعض مسميات المدن الاسلامية الكبرى في كتابه مثل (طنجة وتونس والقيروان ومليانة والاسكندرية والقاهرة والمدينة المنورة ومكة المكرمة وغيرها من الامصار الاسلامية الاخرى)

يبدأ روشيه كتابه بالقول: إن الدّين الإسلامي هو دين المحامد والفضائل ولو أنه وجد رجالا يعلمونه الناس حق التعليم، ويفسرونه تمام التفسير لكان المسلمون اليوم أرقى العالمين وأسبقهم في كل الميادين، ولكن وجد بينهم شيوخ يحرفون معانيه، ويمسخون جماله، ويدخلون عليه ما ليس منه...

وفي الكتاب يصف روشيه الحج عند المسلمين ويبين قدره في نقوس المسلمين مستعرضا مكانة مكة والمدينة المنورة في القلوب، إذ يصف مكة بأنها جامع قلوب المسلمين وسبب وحدتهم وقوتهم وجبروتهم وتحابهم وتعارفهم، وانه ليس هناك من دين أو رابطة بشرية تعلي شأن المنضوين تحت رايتها كما تفعل مكة قبلة المسلمين ومكانهم المقدس الأول.

وربما كانت هذه المشاركة الوجدانية التي أفاض بها الله على قلب هذا المستشرق دليل على اعتناقه الاسلام بعدما تجربة صراع طويل بين قناعاته العقدية السابقة وقناعاته التي استحصلها بعد معاشرته للمسلمين ثلاثة عقود وتشربه بأفكارهم ومشاعرهم وهو ليس الوحيد من المستشرقين في ذلك، وهذا ما يوحي به كتابه الوحيد (ثلاثون عاما في رحاب الاسلام)  

مجلة الروضة الحسينية