ايطاليا ورحلة الاستشراق

د. هاشم الموسوي

عاش الغرب المسيحي إلى جوار المشرق الاسلامي دهورا طويلة دون أن يشعر أحدهما إلى الحاجة بضرورة تعلّم لغة الآخر واتقانها إلا حينما نشطت العلاقات التجارية بين الطرفين، وحينما بدأ احدهما يشعر بالخطر الحقيقي الداهم للآخر المختلف عرقيا ودينيا، وحينما أدركت الكنيسة المسيحية بخطر الاسلام الداهم على الجنوب الفرنسي قبل قرون وبعد أن فقدت نفوذها في بلاد الشام وآسيا الصغرى والشمال الأفريقي تباعاً بفعل انتصارات المسلمين وطردهم للبيزنطيين أصحاب النفوذ الدائم في هذه الأصقاع الكبيرة على مر التاريخ.

 وإذا كان العرب قد بدأوا بترجمة التراث اليوناني واللاتيني من طب وفلك وهندسة وحكمة وفلسفة بعد أن سيطروا على الاراضي الاسبانية لغرض معرفي بحت، وهم -في الحقيقة بذلك- قد قاموا بحفظ التراث الأوربي الذي أعادت أوربا ترجمته مع بداية عصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي بإيطاليا نقلا عن اللغة العربية ؛ فإن الترجمة المعاكسة من العربية الى اللغات الاوربية الاخرى قد ابتدأت لأغراض أخرى غير معرفية في كثير من الأحيان، حيث تشير الوقائع إلى أن العام  1143م شهد ظهور أول ترجمة للقرآن الكريم قام بها (بطرس المبجل) حينما توصل إلى قناعة أنه لا يمكن الانتصار على المسلمين بقوة السيف وحدها، وإنما يجب أن تعرف الآخر على حقيقته كي تنتصر عليه، وإننا لا يمكن أن نعرف المسلمين ما لم نعرف كتابهم الذي يبعث فيهم كل هذه القوة والاصرار، ولذلك عكف هذا القس بمساعدة مجموعة من أعوانه ممن يجيدون العربية على ترجمة القرآن الكريم ونشره في عموم أوربا لهذا الغرض.

واذا كان الاستشراق الاوربي انطلق من أرض إسبانيا؛ فإنه قد نشأ وترعرع في المقاطعات والديار الايطالية التي كانت مع مطلع عصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي ملتقى المثقفين وعلماء اللغات والآداب والفنون بسبب موقعها الجغرافي واطلالتها البحرية على عموم العالم القديم (آسيا وأوربا وأفريقيا) ولذا طبع القرآن الكريم لأول مرة بحروف عربية في فينيسيا الايطالية عام  1530ميلادي، ثم ترجم لاحقا ترجمات عديدة.

 ومع مطلع القرن السادس عشر الميلادي وبروز الدولة العثمانية كقوة عظمى بعد احتلالها معظم أراضي شبه جزيرة البلقان والمجر سعت الكنائس الأوربية للتوحد درءا لهذا الخطر القادم، فأصبحت مسألة تعلم أسرار هذا الدين ولغة كتابه الكريم من أهم الأمور التي انبرى لها مجموعة من العلماء من أشهرهم وأولهم الإيطالي (بوستل) الذي ترك مجموعة كبيرة من الدراسات العربية والاسلامية المكتوبة باللاتينية القديمة، وعلى هذا الاساس تأسس مركز (الدراسات العربية الايطالية) مع بداية القرن السادس عشر، ثم تبعه بعد ذلك تأسيس (كلية ومعهد المارونيين) بروما عام 1584م بأمر من البابا (غريغور الثالث عشر) لغرض الإحاطة بأسرار العالم الإسلامي والحد من قدراته على إدارة الصراع العالمي.

وتنبع أهمية الاستشراق الايطالي من خلال ارتباطه كمؤسسة ثقافية ذات أهداف واضحة ومعروفة بالفاتيكان الذي يعد مركز العالم الكاثوليكي وأكبر مرجعية دينية أوربية وعالمية تهدف إلى تنصير الشرق وإعادته الى ديانته السابقة أو على الأقل السعي للحد من انتشار الاسلام بشتى الوسائل، ولذلك ارتبط الاستشراق الايطالي بأهداف وغايات دينية منذ بداية تأسيسه وحتى يومنا هذا، حيث خفّت فيه هذه النبرة واستبدلت بنبرة أخرى سنوضحها لاحقا، وبالتأكيد فإن هناك استثناءات نادرة هنا وهناك عند بعض مستشرقي إيطاليا الذين غلبت عليهم وعلى اشتغالاتهم المعرفية ميول ذات طابع (مسيحي- إنجيلي) تبدو واضحة لكل ذي بصيرة.

أما في العصور الحديثة فقد دخلت المنفعة التجارية الى جنب البعد الايديولوجي في تحريك اشتغالات الجهد الاستشراقي الايطالي، الذي ادرك قيمة العالم الإسلامي وما تمتاز به أراضيه وبلدانه من موقع استراتيجي وما تحويه بواطن هذه الأراضي من كنوز ومعادن لا تنضب، وقد وصف (كارلو نالينو) وهو أحد أهم المستشرقين الايطاليين المعاصرين طبيعة العلاقة بين ايطاليا الدولة الأوربية المتطورة وبين العالم الاسلامي بالقول): لقد سبقت أمتي الايطالية التي انتمي باعتزاز اليها الامم الافرنجية الأخرى إلى عقد العقود وتثبيت روابط المحبة والوئام بينها وبين الديار المشرقية، فكان تجار القرون الوسطى في البندقية وجنوة وغيرها من البلدات الايطالية يقصدون مصر والمشرق الاسلامي أفواجا مقتحمين لجج البحار باذلين الجهد في توسيع نطاق التجارة حتى أصبحوا في زمن قليل منفردين بالاتجار مع الشرق ومتميزين بعلاقات الود والسلم مع تلك الديار الشريفة والآمنة...)

وإلى جانب كارلو نالينو) أحد محدّثي مناهج الدراسات الاجتماعية والتاريخية والادبية في الجامعات المصرية من خلال العمل المباشر بهذه الجامعات كان هناك (فرانشيسكو ابن المستشرق جيبريلي) و) إجناسيو جويدي) و) مريا نالينو ابنة كارلو نالينو) (أولجا بنتو) و( إنجيلا كودازي) وآخرين ممن ينتمون إلى أسر توارثت العمل بميدان الاستشراق في المؤسسة الثقافية الإيطالية وعرفت ألاعيبه وأحابيله.

وعلى كل حال، فإن الاستشراق الإيطالي المعاصر وإن كان محكوماً بمسؤولية فتح باب التجارة والتعاون بين الأسواق الإيطالية والبلدان العربية والمسلمة في الشرق، فهو مع تأثيره بالفكر العربي المعاصر ظل مؤسسة تابعة للعقلية العسكرية الأوربية عامة والايطالية خاص ، وقد شهدنا ذلك بأم أعيننا في هجوم القوات الايطالية الغازية على البلدان المسلمة الآمنة كليبيا والصومال وأرتيريا وأثيوبيا وغيرها من البلدان الأخرى، إذ قدمت مراكز الاستشراق الايطالي معلومات كبيرة عن طبيعة هذه البلدان من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والثقافية من أجل تسهيل عملية الغزو العسكري والاستيلاء المنظم ونهب الخيرات الذي يمثل على الدوام هدفا خفيا لمؤسسات الاستشراق في عموم البلدان الأوربية.