العلمانية والنفاق المؤسَّسي

صباح الطالقاني

أن تنتقد الصهيونية فانها جريمة تستدعي التحرك ضدّك تحت دعوى ما يسمى معاداة الساميّة، هذا المصطلح الذي يرمز الى معاداة اليهود كمجموعة عرقية ودينية، في حين ان ذات المصطلح لا يرمز الى معاداة العرب والآشوريين بالرغم من انهم يعودون إلى الساميين ايضاً!! وكأن هؤلاء لم يتعرضوا عبر التاريخ الى القتل والتنكيل والترهيب.

وأن تنتقد العلمانية الغربية فذلك خرقٌ للحدود وتجاوز لنظام الدولة يمكن ان تُحاسَب عليه، بدعوى ان العلمانية امتداد طبيعي لتراث طويل من الفصل بين الدين والدولة في اوربا.

ولكن بالمقابل، لكَ كامل الحرية في انتقاد المسلمين بل توجيه الاساءة لهم واهانة مشاعرهم والتجاوز على معتقداتهم والانتقاص من مقدساتهم بشتى الطرق والاساليب، ولا سيما حين يتعلق الموضوع بمسألة تحديات اندماج المسلمين في مجتمعاتهم الغربية، فهل هذا ما تعنيه الديمقراطية وهي اهم ركائز العلمانية ان لم تكن هي ذاتها بوجه آخر؟

وكيف ان العلمانية التي تقصي دَور الدين في الحياة العامة بدعوى تقديس الحريات الشخصية واحترامها، كيف تبيح للبعض من جانب آخر التجاوز على معتقدات الملايين من البشر واهانة مشاعرهم؟ وهل ان التمتع بعقيدة دينية سماوية يسيء الى الدولة الى حد أن ينبري اكبر مسؤول فيها ليؤكد عدم التراجع عن الاساءة بذريعة التمسك بالقيم المدنية؟ وأي قيم هذه التي تحترم جزء من المجتمع وتسيء الى جزء آخر؟

ام ان المسألة قُصر نظر وسوء فهم وجهل بمبادئ الدين الاسلامي الحنيف وعدم تمييز بين الاسلام وبين بعض المسلمين المتطرفين؟ ام ان هناك جزء كبير من مسؤولية هذه النظرة السلبية عن الاسلام يقع على المسلمين نفسهم، لِما رشحَ من بعض طوائفهم من مفاهيم تطرّف وقوى ارهابية نتجت عن الفكر السلفي المتشدد والوهابي، الذي نقل صورة مغلوطة عبر أحاديث مكذوبة عن نبي الرحمة وعن سلميّة الاسلام؟

تشير نتائج استطلاعات رأي فرنسية الى بروز تمايز طبقي ونفاق مؤسساتي تجاه المواطنين المسلمين، وتُبيّن هذه النتائج أن مشاكل اندماج المسلمين الرئيسية في مجتمعاتهم الغربية تتعدى الحاجز الذي تضعهُ العلمانية، ولكنها - العلمانية - ترسّخ هذا الحاجز وتمنع الانفتاح نحو نقاشات فكرية معمّقة للتمييز بين حرية المعتقَد وما يترتب عليها من حقوق اجتماعية واقتصادية، وبين ضمان ما تتمسك به الدولة من ارث فصل الدين عن السلطة.

يبدو هذا واضحاً من خلال نتائج استطلاع أجرته مؤسسة “Harris Interactive”  الفرنسية اذ قال 73% من المشاركين إن لديهم نظرة سلبية للإسلام، وقال 90% إن ارتداء الحجاب الإسلامي لا يتماشى مع الحياة في المجتمع الفرنسي، وهنا تتحول العقيدة العلمانية إلى نفاق مؤسسي يغذّي حلقة مفرغة من التطرف المتبادل.

يقول الرئيس الفرنسي ان الاسلام يعيش اليوم ازمة، في حين الأصح ان المسلمون يعيشون أزمة وليس الاسلام، ولنا أن نتسائل لماذا يعيش المسلمون اليوم أزمة في كل مكان تقريباً؟ الاجابة واضحة ازاء هذه الاتهامات، وهي ان اساليب المكر والخداع والتبشير وسياسات الهيمنة والاستحواذ على عقول ومقدرات وثروات الشعوب التي تنتهجونها منذ قرن هي المسبب الرئيسي للازمة التي يعيشها المسلمون.

أضف الى ذلك الحواجز التي وضعتموها كدول غربية كانت وما تزال استعمارية، هي التي تمنع المواطن الغربي من فهم الاسلام وتمنع من جانب آخر المسلم الغربي من الاندماج المجتمعي لخوفه على مستقبل هويته ومبادئه ومعتقداته.

ميركل، مستشارة ألمانيا، تجيبكَ ايها الرئيس الفرنسي على دفاعك عن الانتهاكات والاساءة الى رسول الاسلام بذريعة قيم مدنية وحرية تعبير، فتقول لك ولكل المتطرفين" ان حرية التعبير يجب أن تكون لها حدود". وهذا القول المقتضب والواضح والبسيط يبيّن الفرق بين القائد الحقيقي والسياسي المأزوم.

ومن هنا، فمثلما يتشبث العلمانيون بفصل الدين عن السلطة عليهم من منطلق الانصاف الذي يدّعونه، احترام الرأي المعارض واحترام الحريات الشخصية بما في ذلك معتقدات ومقدسات الآخرين الذين يشاركونهم بحقوق المواطَنة وواجباتها.

الفيلسوف الفرنسي لامارتين، وهو الكاتب والشاعر والسياسي الذي لعب دوراً محورياً في تأسيس الجمهورية الفرنسية الثانية، يقول بحق النبي محمد صلى الله عليه وآله في كتاب "تاريخ تركيا ج1" "إنه فيلسوف وخطيب فصيح ورسول ومشرِّع ومحارب وفاتح لأفكار جديدة ومؤسس لعقائد عقلانيّة ولعبادةٍ دون صُور، ومؤسِس لعشرين إمبراطورية على الأرض، ولإمبراطورية روحيّة واحدة، هذا هو النبيّ محمّد! فمَن نجد أعظم منه إذا ما قيس بكلِّ مقاييس العظمة الإنسانية؟"