رحيل روبرت فيسك.. 40 عاماً من العمل الصحفي المنصِف ومناصرة القضايا العربية

صباح الطالقاني

اذا كانت الصحافة البريطانية هي الرائدة في العالم، فإن روبرت فيسك أحد أكبر أعمدتها الأكثر انصافاً وموضوعية ومهنية ومناصَرة للقضايا العربية. وهذا من باب الانصاف ليس إلا.

توفّيَ في 30 تشرين أول الماضي روبرت فيسك، رجل الصحافة البريطاني الأكثر شهرة في الشرق الاوسط، والذي عملَ لأكثر من 30 عاماً في المنطقة، وقام بالتغطية الصحفية بدايةً من الحرب اللبنانية ومروراً بمذابح صبرا وشاتيلا والثورة الايرانية والحرب العراقية الايرانية وحرب الخليج الاولى ومن ثم غزو العراق عام 2003، وكتبَ عن الحرب السوفيتية الافغانية والصراع العربي الاسرائيلي وحرب كوسوفو وما سُمّيَ بالربيع العربي والحرب في سوريا...

وكان مركز الاعلام الدولي في العتبة الحسينية بكربلاء استضافَ روبرت فيسك عام 2018 لإطلاعه على الواقع الذي خلّفه احتلال تنظيم داعش الارهابي لمناطق شاسعة في العراق، ومن ثم اطّلع فيسك ميدانياً على الأثر الايجابي الكبير الذي أحدثته فتوى الدفاع الكفائي التي اطلقتها المرجعية الدينية، حيث شكّلت أفواج المتطوعين حاجزاً حقيقياً لصد هجمات داعش وتمدده داخل البلاد، ثم الشروع بالهجوم على العصابات الارهابية وتحرير المناطق التي احتلتها تلك العصابات وصولاً الى آخر نقطة على الحدود العراقية السورية من جهة الشمال الغربي.

في تلك الزيارة كتبَ فيسك بصحف بريطانية عدّة مقالات، احدها تعلّق بقضايا التمسك بالقيم الوجودية والكرامة للانسان العراقي تحت عنوان (غراء الوحدة في قصة البقاء) قائلاً" من أجل أرض عانت من مثل هذه المعاناة في عهد صدام، ثم تحت حكم الأمريكيين، ثم تعرضت لهجمات داعش، ثمّةَ كرامة عميقة لا تزال قائمة.

مضيفاً" أتردد في تذكّر عدد المرات التي هزَّ فيها الشيعة رؤوسهم في رعب وذهول قاتم عند ذِكر صدام، الذي لا يزال شبحهُ يلوح في الأفق على العراق الممزق من جراء الحرب وغزو بوش وبلير الذي دمّرَ بلاد ما بين النهرين القديمة... عندما سمعت أنه تم اكتشاف مقبرة جماعية أخرى لضحايا داعش كنت على استعداد للانطلاق، ولكن اتضح بعد ذلك أن المقبرة الجماعية قد تم اكتشافها على بُعد أكثر من 100 ميل غرب السماوة وأن عشرات الجثث لم تكن من الشيعة الذين قتلوا على يد داعش بل الأكراد الذين قُتلوا خلال حملة الأنفال التي شنّها صدام عام 1988.."

وروبرت فيسك الصحفي والكاتب والمؤلف والباحث في الشؤون الدولية، ترك أثراً تخطّى حاجز الحدود الجغرافية لأوربا وامتدّ الى عموم الشرق الاوسط، وكشفَ عن وجهٍ ناصع لمعنى أن تكون صحفياً مبدعاً مستقلاً مؤتمَناً على نقل الحقيقة مهما كان الثمن.
وكتب فيسك أيضاً عن مقاتلي الحشد الابطال الذين دحروا داعش، متطوعين ومستجيبين للفتوى التي أطلقها آية الله السيد السيستاني، لكنهم بالمقابل لم يحظوا بالاهتمام من الحكومة وحتى عوائل الشهداء التي بقيت بلا معيل لم تكفل لها الدولة ما يحفظ مستقبل ابنائها وكرامتها.
وجاء في مقال فيسك المعنون (يروي الجرحى والمنكوبين في العراق حكاية مقلقة لبلدهم بعد هزيمة داعش) بصحيفة الإندبندنت" في اللحظة التي يصعد فيها الرجل البالغ من العمر 54 عامًا إلى السيارة، من الواضح أن هناك شيئًا خاطئًا للغاية. الطريقة التي يجر بها قدميه، ثم يختمها على الأرض ويسير إلى الأمام مثل لعبة الجندي، رأسه منخفض ؛ ثم الطريقة التي ينظر بها إليك من تحت الحواجب الداكنة.. كان ينبغي أن يعود طامي اليساري من جبهة معركة داعش إلى أرض صالحة للأبطال.

واضاف فيسك" بالنسبة للمسلمين الشيعة في جنوب العراق، يعتبر المقاتل طامي اليساري من الأبطال. عندما سألتهُ عن إصابته، نظر إلى الجدار وحدّق به في حزن قائلاً: "أصبت عدة مرات". ويمكنك أن تدرك أن الرصاص والشظايا شكلت مذكرات في ذهنه." 2015 في بيجي لمرتين، في 2016 على جبال مكحول بالقرب من تكريت، ثم في 2017 بمحافظة الأنبار."

ويبين فيسك" تتوقع كل الجيوش العودة من النصر ليتم الترحيب بها كأبطال. أدى فشل البريطانيين في الوفاء بهذا الوعد للمحاربين القدامى في الحرب العالمية الأولى إلى اضطرابات اجتماعية هائلة. تتوقع عائلات الموتى تكريم رجالهم إلى الأبد.

وتابع" فقد عباس السعدي ابنه ماهر البالغ من العمر 23 عامًا في 7 يوليو 2015، في نفس معركة بيجي حيث أصيب اليساري للمرة الثانية. يقول عباس السعدي: "تلقيت مكالمة منه قبل 15 دقيقة من مقتله". "تحدثنا كثيرًا على الهاتف. قلت إنني اشتقت إليه. كان يقول كل مرة إنه يأسف لأنه لم يستشهد في ساحة المعركة!

لذلك سألت عباس السعدي عن ماهر ببعض الخوف: هل كان الأمر يستحق ذلك؟

أجاب ببطء: "نحن لا نأسف على موته - لأنه كان يتبع الفتوى". "نحن لا نشعر بالأسف. كانت الفتوى لكل العراقيين".

وندب عباس السعدي قلّة الأموال لديه. ويقول إن الحكومة لم تفعل شيئًا يذكر لتعويضه عن ابنه. يقول: "كان من المفترض أن يعطونا قطعة أرض". "لكن الذي حصلنا عليه كان في الصحراء، لم يكن هناك شيء، مجرد رمال.

وختم فيسك مقاله مؤكداً" إذا كان للعراق أن يتوحد، يجب احترام كل من حارب أعداءه... لكن السياسة تعمل أسرع من الذاكرة، والعراق ليس بعد أرضًا صالحة لجميع أبطاله."

الغالب دائماً على كتابات ومؤلَّفات الراحل فيسك هو انتقاد السياسة البريطانية والامريكية او ما أسماهم الانجلو ساكسونيون، ويتضح هذا الامر في مؤلَّفه (الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة: السيطرة على الشرق الأوسط).

واكبَ فيسك الثورات والتظاهرات الكبرى التي شهدتها بلدان عربية خلال السنوات المنصرمة، واصفاً اياها انها تختلف بين بلد وآخر ولكنها ترتكب نفس الخطأ، فجاء في مقال له بصحيفة الاندبندنت" إن هذه الثورات ليست واحدة أو متشابهة، إلا أنها في نفس الوقت تتشارك في الخطأ المميت ذاته.

وأوضح فيسك أن" تلك الثورات لا يوجد لها قيادة ملهمة، تتسم بالنزاهة تقود حراكها، ولا يزالون يبحثون عنها". مشبّهاً اياها بـ" صدمة كهربائية من النوع الأقوى وغير المتوقع، فيعتقد الضحايا أن هذه الصعقة عبارة عن صعقة دبّور قوية، إلا أنهم يكتشفوا في النهاية أن البيت الذي يجمعهم تحت سقفه ويعيشون فيه قد تعرض للصعق بالكهرباء. موضّحاً أن "الجماهير تتفاعل مع صرخات الألم، حلم العودة للبيت الوطن، أو تجديد البيت بالكامل لحماية قاطنيه، إلا أنه بمجرد إدراكهم أنهم يمكنهم ترويض الكهرباء، بغض النظر عن الألم والقسوة يجدوا أنفسهم بدون عنصر التحكم في الكهرباء والألم، فيبدأون بالاسترخاء، ويكتشفون أن كل شيء كان بسبب اتصال معيب، ويدركون أنه يمكن فقط لعدد محدود من الكهربائيين المدربين جيدا أن يتعامل مع الزيادة الرهيبة في القوة".

وتابع "هذا ما يحدث في العراق ولبنان وفي بغداد وكربلاء، وفي بيروت وفي مدينة الجزائر - ومرة أخرى بشكل محدود في القاهرة، يطالب الشباب والمتعلمون بوضع حد ليس للفساد فحسب، بل على الطائفية وحكومات المافيا ذات الثراء الهائل والغرور والسلطة، إلا أن المتظاهرين ارتكبوا الخطأ نفسه الذي ارتكبه ملايين المصريين في عام 2011: ليس لديهم قيادة، ولا وجوه نزيهة معروفة، ولا يبدو أنهم مهتمون بالعثور على أي منها".

رحيل فيسك كان هادئاً مثلَ صفاته الشخصية التي تلمّسناها في لقائنا الاخير معه عام 2018، فقد كشف لنا انه متابعٌ دائم لحركة المسرح والأدب، وقارئ شغوف للروايات، لذا اعتقد انه استمدَّ أسلوبه السردي المشوّق في القصص الخبرية التي كان يكتبها في الصحف العالمية، من شغفه بقراءة القصص والروايات لنصف قرن تقريباً.