القيمة الشرعيّة (للرأي) في تقديرات القرآن الكريم

بقلم:عبد الرزاق الشيخ باقر الجابري

 

نشرت مجلة (الروضة الحسينية ) القيّمة في أعدادها (40- 41 – 42) مجموعة مقالات فكريّة متعلّقة بــ(العمل بالرأي) بدعوى إرساله وكونه معارضاً بحديث آخر ثابت الإرسال لدى جميع الأطراف. وإنّ  كاتب هذا الموضوع -حفظه الله- أثبت بكل جدارة وبطريق علمي موضوعي هادئ ألّا قيمة لذاك الحديث المزعوم شرعاً وأنه لون من ألوان الوضع والدس.

وقد أرتأينا عرض أطروحة (العمل بالرأي) على كتاب الله تبارك وتعالى، لتبيان الحقيقة من الوجهة القرآنية.

ومن المؤكّد أن هذا مفزع مشروع لا تردد فيه ولا توقف، بل هو من الثوابت الشرعية التي أكّد عليها الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الصلحاء ثقة منهم بكتاب الله الذي فيه تبيان لكلّ شيء، وإنّه لمن المسلّمات أن مصادر الرأي هي غير مصادر الدين الثابت على قاعدة الوحي الإلهي الغيبي (تنزيل من ربّ العالمين)، أما مصادر الرأي فهي الحياة بأشكالها وتداعياتها ومتناقضاتها وحلوها ومرّها مما يكسب صاحبها معرفة في تشعباتها.

وكل الذي يقال في هذه المعرفة امتيازها بمدى وقتي ومن ثمّ تنحدر حتماً إلى التغيير والزوال...)

فالرأي الذي ينطلق من هذه المعرفة إذا ما تدخّل في تشريع الحلال والحرام، لا تأخذ أحكامه صفة الموضوعية، بل ستكون مرحلية لا ثبات لها، فهي نسبيّة تختلف عن الأحكام التي شُرّعت في القرآن الكريم، فحلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

والذي نريد عرضه هنا هو بيان القيمة الشرعية (للرأي) في تقديرات القرآن الكريم وكشفه لما يتعلّق بأحكام (الرأي)، ولذا قيل لا حكم إلا لله....

 

وإليك الثوابت القرآنية التالية:

 

اولاً: كمال الدين الإسلامي كمال محكم لا يقطر ولا يمطر. قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) (المائدة ة) وتسمى هذه الآية آية إكمال الدين.

فلو ادّعى أحد نقصاً في دين الله لكان مخطئاً حتماً، وإن هذا النقص المدّعى هو تعبير عن قصور المدّعي قصوراً شخصياً، وبناءً على ذلك فوضع تشريعات الرأي الى جانب تشريعات القرآن الكريم إنما هو محض الشك في إكمالية الدين.

 

ثانياً: إن مما لا جدال فيه أن الذي جرى على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أقوال وما فعله وما قرره من افعال صدرت من صحابته الكرام فهي في إطار ما أُوحي إليه بقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (النجم3) فتخرج من الاعتبار الشخصي إلى اعتبار السُنة النبوية، لقوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (الحاقة44- 45 – 46- 47).

 

ثالثاً: مصدرية الدين جهة واحد هي السماء، وتبقى ثابتة لتقرر وحدة المعتقد واستقامته، وهذا يعني وحدة الامة لوحدة المعتقد، واشار إلى ذلك قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ /الشورى : 13).

وقوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ .... /الشورى : 14).

فوضع الرأي إزاء الدين هو شك فيه، وشك في وحدة جهته، بل هي لعبة على امتداد الألاعيب الماسخة لنوعيّة الدين كما جرى فيما مضى من الأديان السماوية.

 

رابعاً: النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مسؤول أمام الله فيما كلّفه به وبامتياز أعلى درجات النزاهة والأمانة والحرص، ومع كلّ ذلك فإنه تعالى يحذّر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن يتبع آراء اليهود أو النصارى والتي هي محض أهواء ليس إلا، قال تعالى: ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى، حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير(البقرة 120))، وقال تعالى في موضع أخر: (َولَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ /البقرة : 145) ، وقال أيضاً: ....وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ /الرعد : 37.

فتقوى الله وأمانة إكمال الدين تأبى على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تخويل ذاتٍ تدين برأيها وتتحكم في شرع الله؛ لأن الرأي الشخصي نزعة من الهوى، أما الدين فعلمٌ رباني.

 

خامساً: إن المناط في كل الاحكام هو العدل، والعدل قضية ثابتة، أما الرأي فلا ثبات له.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ...... [المائدة : 95].

فقد شرّع الله تعالى تخويل ذوي العدل للحكم، وذووا العدل إنما يحكمون في قوالب العدل بعيداً عن الرأي، فالرأي لا ثبات له، والعدل منهج ثابت لا يتغير.

 

سادساً: كما أن مصدرية الدين من الله تبارك وتعالى فإن مصدرية العدل وأساسه وقاعدته إنما هي المولى تبارك وتعالى، وقد ألزم تعالى أنبياءه ورسله أن يحيدوا عما أمرهم به، فهذا سليمان بن داود عليهما السلام لما حضر بين يديه خصمان – ملكان – فتحاكما لديه في قوله تعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ . قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ.... (ص23 – 24).

وقد نبّه الله تعالى داود على هذه المرافعة التي أجراها برأيه بقوله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ /ص : 26.فالرأي والهوى لا حدود بينهما.

 

سابعاً: لنا في قصة اتّباع موسى ويوشع العبد الصالح (الخضر) ما فيه الكفاية ألّا مكانة للرأي أمام شرع الله وتكاليفه، فرأي موسى عليه السلام يرى المنكرَ في ما قام به العبد الصالح حتى اعترضه ثلاثاً مما أدّى إلى فصله عن المتابعة لمخالفته بنود العقد وهي ألّا يعترض فيما يرى من فعل معلمه.

فاعتراض موسى على أستاذه كان يتوخّى الحكم الظاهري، لكن أحكام الله تتجاوز المظاهر إلى ما هو الواقع الحق الثابت عند الله..., هذا ما ظهر من قول الخضر (عليه السلام)، والذي حكاه الله تعالى بقوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً /الكهف : 82.

 

ثامناً: لو توخّينا كلمة (الرأي) في القرآن الكريم، وهو تعبير عن الصورة النفسيّة للشخص وما انضمّت عليه جوانحه نجد أن القرآن استخدمها في موضع واحد فقط وهو موضع لا يحسد عليه في قوله تعالى: (....وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ /هود : 27)، ففي الآية إشارة إلى ما في (الرأي) من بؤرة الخلاف والتمزّق والتباعد والتخالف، والذي يشيد برأيه في تلك الأيام الغابرة فهو لا يعبر إلا عن المخالفة والمنابذة والتعصّب والمزاجيّة المتحكّمة بالهوى، وإذا كانت أيامنا الحاضرة تزخر بالدعوات الإصلاحية واحترام الآراء والمآخذ البشريّة، فهي نتيجة وصول الحضارة المتطلّعة إلى احترام الآراء والمشارب لانضباطها بالموضعيّة والمعرفيّة، لكن (الرأي) في العهود السابقة للرسالة الإسلاميّة وعهود ما بعدها لا يتعدى كونه جراباً من الهوى وسائر التصرفات الشخصية... وما زال الرأي لا يلوي على ثابت عادل لدى شعوب الأرض، لذلك لم يكن في ثوابت القرآن الكريم أن الرأي له ثابت يُعتمد عليه.

 

تاسعاً: ولربّ قائل يقول: أما بَعث النبي عليّاً سفيراً إلى اليمن وقاضياً حيث قال عليه السلام: فقلت: إنك بعثتني وأنا شاب إلى قوم هم أسنُّ مني فكيف أقضي بينهم؟

ونقول: ليس في هذه الرواية ما يدلّ على أن عليّاً عليه السلام كان يقضي برأيه!

لأنّ تتمة الرواية هذه تدل على نفي ادعاء الحكم بالرأي لدى الإمام وهي:

 أن النبي أجاب علياً فقال: أن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك وقد قال النبي في حقّ علي (عليه السلام): (علي باب علمي ومبين لأمتي ما أرسلتُ به من بعدي).

 

عاشراً: ونختم هذه المقالة بالسؤال التالي:

كيف يدلل المعتمد على أحكام الرأي براءة هذه الأحكام من تهمتها بـ (ادعاء الألسن بشرعيّتها) لتسلم من قوله تعالى:

وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (النحل116).

=========== 

المصدر/ مجلة الروضة الحسينية / العدد 47 / جمادي الاول  1433هـ