الاستشراق وبوصلة التشيع

الاستشراق Orientalism في أبسط تعريفاته هو مصطلح يدل على النزوع المعرفي نحو الشرق عموما (آسيا أفريقيا ) من قبل أهل الغرب (أوربا)، أما لفظ مستشرق فيطلق على كل من يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم. ومع دخول نابليون واحتلاله مصر عام 1798م أخذ الاستشراق يقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، بما يشمل حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته. ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن الشرق عامة وعن العالم الإسلامي بصورة خاصة، معبراً عن الخلفية الفكرية للصراع الحضاري بينهما.

ويعود بعض الدارسين بتاريخ الاستشراق إلى عهد الدولة الإسلامية في الأندلس، في حين يعود به آخرون إلى أيام الصليبيين، بينما يرجعه كثيرون إلى أيام الدولة الأموية في القرن الثاني الهجري، حيث عرف عن الراهب يوحنا الدمشقي كتابته كتابين، الأول عنوانه: حياة محمد. والثاني: حوار بين مسيحي ومسلم. وكان هدفه المعلن في كتابيه تعريف النصارى بالمسلمين وعقائدهم، والترويج للعقيدة المسيحية التي تراجعت وتقهقرت في موطنها الأصلي بعد ظهور نور الإسلام، مما يدلل على أن الاستشراق كان مرتبطا في أول ظهور له بالعامل الديني.

أما الاستشراق اللاهوتي (أي المرتبط بالعقيدة الدينية مسيحية كانت أو إسلاميّة) فقد عرف بشكل رسمي حين صدور قرار مجمع فيينا الكنسي عام 1312م وذلك عندما تأسست مجموعة كراس جامعية لتدريس اللغة العربية ومعرفة آدابها في عدد من الجامعات الأوروبية. في حين لم يظهر مفهوم الاستشراق المرتبط بالأطماع والدوافع السياسية في أوروبا إلا مع نهاية القرن الثامن عشر وهو قرن التمدد الاستعماري السلطوي، إذ ظهرت بوادر هذا المفهوم  في إنجلترا عام 1779م، وفي فرنسا عام 1799م ، كما يشير إدوارد سعيد في كتابه المهم عن الاستشراق.

وخلال هذه الفترة المذكورة وما تلاها من حقب استعمارية قام المستشرقون بدراسات متعددة عن الإسلام واللغة العربية والمجتمعات المسلمة بأفكارها وعاداتها وتقاليدها، ووظفوا خلفياتهم الثقافية ومعارفهم المنظمة لدراسة الحضارة الإسلامية والتعرف على خباياها لتسهيل عمل الاستعمار وتوطيد أركانه في البلاد المغزوة بما يخدم أهدافه السياسية الرامية إلى إخضاع الشعوب ونهب خيراتها، وبما يحقق أهدافه الدينية المتمثلة بالترويج للتنصير والتشجيع على الدخول في المسيحية وترك الدين الأصلي لهذه الشعوب التي كانت-ولا سيما المسلمة منها- تقاوم هذه الأهداف رغم عدم تكافؤ القوى والإمكانات بين الطرفين.

ومع كل هذا فقد اهتم المستشرقون اهتماماً حقيقيًّا بالحضارة الإسلامية وحاولوا أن يتعاملوا معها بموضوعية وإنصاف من خلال عكوفهم على دراسة المعارف الإسلامية وعبر صبرهم المنقطع النظير على صعوبة اللغة العربية على غير أهلها وتحقيقهم للآلاف من المصنفات الفقهية والأخلاقية ودوواين شعراء العربية على مختلف العصور، ومن أهم إنجازات الاستشراق المعرفية نذكر، مثلا: تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان ت1956م، وتأليف كتاب: دائرة المعارف الإسلامية  التي ظهرت الطبعة الأولى بالإنجليزية والفرنسية والألمانية وقد صدرت في الفترة 1913-1938م، وطباعة كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف والذي يشمل الكتب الستة المشهورة بالإضافة إلى مسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل وقد وضع في سبعة مجلدات نشرت ابتداءً من عام 1936م.

ولقد بلغ ما ألفه المستشرقين عن الشرق في قرن ونصف القرن (منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين) بحدود الستين ألف كتاب، وهو عدد كبير ونوعي. وهكذا نجح عدد قليل من المستشرقين في هذا المجال، غير أن غالبية المستشرقين لم يستطيعوا التخلص من تأثير ثقافاتهم وعقائدهم وآراءهم المسبقة والعنصرية وهم يكتبون عن الإسلام أو وهم يجعلون أتباعه ميدانا للفحص والتحليل والمعاينة المعرفية المنضبطة.

أما بخصوص الاهتمام الاستشراقي بالتشيع فهو لا يختلف عن طريقة الاهتمام من قبل عموم المستشرقين الاوربيين في الدين الإسلامي وارتكازهم على شبهات غير عادلة في أغلب الأحيان، وإن تفنيد هذه الشبهات ودحضها بطريقة علمية وموضوعية يحتاج إلى دراسات طويلة ومن الصعب اختصاره في مقال واحد أو مجموعة مقالات صغيرة.

وقد تراوحت الصورة المتخيلة في الغرب عن الفكر الشيعي في نهاية القرن الـ19 نتيجة تباين الخبرات الفردية للمنصرين والرحالة والدبلوماسيين، بين رؤيتين مختلفتين تؤكد على صورة التعصب المفرط للشيعة وعدم تحملهم لغيرهم من أتباع الطائفة المحمدية، وقد سار على نسق هذه الصورة جمع من المستشرقين، في الوقت الذي تؤكد الصورة الأخرى على أن الشيعة طائفة ذات تفكير حر متفتح مقارنة بالعقلية المتحجرة لدى الأغلبية السنية! وقد دافع عن هذا الرأي مجموعة أخرى من المستشرقين أيضا.

ولعل قيام ثورة إيران في العقدين الأخيرين من القرن وإسقاطها لأكبر قوة جبروتية في الشرق الإسلامي يعد أهم الأحداث التي وجهت بوصلة الاستشراق صوب التشيع بغية اكتناه الأسرار الروحية والمعرفية التي تكتنف التشيع وتمده بكل هذه الطاقة الروحية الغريبة التي بدت على أنها أكبر من أن توضح أو تحلل أو تفسّر.

وتعد مكتبة ( الشيعة والتشيّع) في كولونيا من أكبر المراكز الفكرية المرتبطة بالاستشراق، وهي مكتبة لا تخلو من أي كتاب يتعلق بالفكر الشيعي من قريب أو بعيد، وقد تأسست المكتبة في العام 1965م بالتعاون مع المتخصص بالدراسات الشيعية البروفيسور (عبد الجواد فلاطوري) الإيراني المولد الألماني الجنسية.

ويأتي اهتمام الألمان بهذه المكتبة لأسباب عدة، أهمها: إن الألمان أمة تهتم بالفكر وبالكتابة وفي ألمانيا مكتبات لا توجد مثلها في كل بلدان العالم، حيث تضم بعض مكتباتها ما يزيد على السبعة ملايين كتاب، فضلا عن ثورة الخميني قد رغبت الشعب الألماني في التعرف على أصول الفكر الشيعي ومبادئه ونظرياته وأفكاره، وهو ما جعلهم يجدون ضالتهم في هذه المكتبة الشيعية العملاقة التي كسرت احتكار المكتبات الألمانية الأخرى لكتب الفكر الإسلامي السني لعقود طويلة