الحر الرياحي رمز للمتميزين
السيد جعفر العلوي
صلاح الحياة ورقيها منوط بوجود فئة من المتميزين الطامحين الصالحين، فهم لا يتركون أثراً وقتياً بل ممتداً باستمرار الحياة.
وفي طليعة أولئك، هم الأنبياء والأوصياء وأولياء الله الصالحين، وقد يكونوا معصومين كالإمام علي وفاطمة الزهراء أو غير معصومين كمؤمن آل فرعون أو زينب عليها السلام.
ومن أولئك المتميزين فعلاً هو الحر بن يزيد الرياحي، القائد العسكري الكبير الذي كان في الجيش الأموي الذي جاء لقتال الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء. إلا أنه بعد أن استمع لخطب الإمام التي وجهها لذلك الجيش، تبدلت قناعاته وانتقل إلى معسكر الحسين عليه السلام معتذراً ثم خطيباً ناصحاً للجيش الأموي، ثم مقاتلاً حتى استشهد رضوان الله عليه.
تفرد الحر الرياحي عظيماً في نصرته للإمام الحسين عليه السلام، فقد اتخذ قراراً صعباً شجاعاً في لحظة حاسمة من لحظات التاريخ وفي أعظم أيام الله .. يوم عاشوراء.
وبقدر الخصوصية التي تميز بها موقف الحر في ذلك اليوم، فقد صنع مجداً أبدياً لم ينله أي قائد عسكري في العالم من حيث الانتقال من معسكر الى آخر. لنركز على خصوصية ذلك الموقف ونتأمل فيه:
١/ إنه كان في يوم عاشوراء. اليوم المتميز في التاريخ البشري وفي أعظم معركة مؤثرة بين الحق والباطل.
٢/ إن الحر كان يتمتع بنفسية مؤمنة متواضعة، فحين وصل يوم الثاني من محرم بفرقة من الجيش معترضاً تقدم الإمام الحسين، وحان وقت صلاة الظهر صلى خلف الإمام الحسين عليه السلام.
٣/ إنه لم يستسلم للحالات النفسية والاعتزاز بالذات والتوتر من أجلها -والتي تصيب الكثيرين - وذلك إثر النزاع الكلامي بينه وبين الإمام الحسين عليه السلام. فحين أراد الإمام التحرك بقافلته منعه الحر وجعجع به، فرد عليه الإمام: " ثكلتك أمك! ما تريد"؟.
فرد عليه الحر : أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذه الحالة التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كان ،ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه". فكان الحر حليماً معترفاً بفضل فاطمة الزهراء عليها السلام ولم تأخذه الحميّة فيرد على الإمام بسوء.
٤/ إنه كان مصداقاً متميزاً ورائعاً لقول الله:
(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى
فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)
فقد اجتنب الطاغوت الأموي وأناب إلى الله، وكان خير عباد الله، فقد استمع لقول الإمام عليه السلام في عاشوراء، وأتبع أحسنه وهو أن ينصر الإمام، لا أن ينسحب من المعركة كما عمل الزبير بن العوام في معركة الجمل. فكان من أولي الألباب الذين بشرهم الله.
٥/ إنه قبل انتقاله لمعسكر الإمام، كان من كبار قادة الجيش الأموي، فلم تغره المناصب والرتب حين رأى أنه يحارب الحق متمثلاً بالإمام الحسين عليه السلام.
٦/إن موقفه العظيم اتسم بالشجاعة والبصيرة. فقد سأله أحد الكوفيين في جيش يزيد عن سبب تحركه المفاجئ. فقال له الحرّ: "إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار، فو الله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وحُرقّت".
٦/ إن توبة الحر توبة صادقة بحق، فقد شعر أن لا تكفير لذنبه المتمثل باعتراض الإمام الحسين عليه السلام في طريقه إلى كربلاء الا ان يكون أول المستشهدين والمدافعين عن الإمام، فلما جاء إلى معسكر الإمام مطأطأ الرأس، قائلاً: "وإني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي، ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى لي توبة؟. قال: " نعم، يتوب الله عليك، ويغفر لك". فكان الحر أول المقاتلين والمستشهدين من جيش الإمام.
٧/ إنه حاول أن يقنع الجيش الأموي بخطأ وجرم محاربة الإمام الحسين عليه السلام، فوقف فيهم خطيباً وقال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهبل والعبر دعوتم ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب ، لتمنعوه التوجه إلى بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته، فأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضراً، حلأتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والنصراني، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، فهاهم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدا في ذريته ! لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه".
٨/ إنه قاتل الجيش الأموي باندفاع وبطولة وقتل عدداً منه، وقيل أنه قتل ثمانين منهم، وكان يرتجز ويقول:
إني أنا الحر ومأوى الضيفِ - أضرب في أعراضكم بالسيفِ - عن خير من حل بأرض الخيفِ.
٩/بعد استشهاده رضوان الله عليه، أتاه الإمام الحسين عليه السلام فجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه، ومنحه وسام شرف خاص به حين خاطبه: ما أخطأت أمك إذ سمتك حرا، أنت الحر في الدنيا والحر في الآخرة؛ ثم استعبر (عليه السلام).
وتم دفنه رضوان الله عليه في موقع خاص يسمى اليوم بإسمه في مدينة كربلاء، وهو مزار وملاذ للمؤمنين وموقع لصلاتهم، وحفل التاريخ والحاضر بكرامات عديدة لقبره الشريف، ولا غرو فهو من أولياء الله الصالحين والمتميزين.
إن هذه السيرة العطرة للحر هي اليوم برسم كل إنسان شهم ليتخذ قراره بتلبية نداء الإمام الحسين عليه السلام والذي لا زال يدوي في جنبات الزمان داعياً لنصرة الدين.
فلنقتدِ بهذا البطل التاريخي ولننتقل أو نزداد تمسكاً بمعسكر الحق والإيمان محاربين معسكر الباطل في كل الساحات. فسلام على الحر يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.