دور العقيدة في بناء الحضارة

صباح الطالقاني

عند الحديث عن دور الإنسان في بناء الحضارة لا يسعنا إلا أن نتبيّن أثر العمق العقائدي في استقرار هذا البناء وديمومته وتأثيره المعاصر أو المستقبلي، وقد شهدت الحياة البشرية حضارات متعدّدة لكل منها مميزات وخصائص نقلها لنا التأريخ والاكتشافات الأثرية.

وعند تناول الحضارة الإسلامية لا يمكن لأحد أن ينكر دورها الرائد في نشر مفاهيم العدل والمساواة والخير انطلاقا من مبدأ التوحيد الذي هو الأساس لكافة الديانات السماوية التي تدعي التكامل في الرسالة الإنسانية.

فالحضارة الإسلامية لم تكن عربية بحتة تفرّدَ العرب في إقامة بنيانها وتثبيت أركانها، بقدر ما كانت تمثّل التفاعل بين جميع الشعوب الإسلامية بقومياتها المختلفة من عرب وفُرس وتُرك وشعوب من شرق آسيا وأفريقيا وغيرهم من القوميات التي ذابت في الإسلام وتخطّت حواجز اللغة والثقافة الخاصة بكل منها.

إنّ المسلمين الأوائل وبفضل جهدهم المخلص لإعلاء كلمة الله تعالى وسعيهم في بناء حياة الأمم والشعوب على مبدأ العدل والإحسان، استطاعوا أن يقيموا للبشرية حضارة عظيمة ورائعة مترامية الأطراف كانت متوازية مع مرحلة انتشار الإسلام الأولى، وامتدت من حدود الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً.

وإذا كان علماء الاجتماع في الغرب قد أشاروا إلى أن الحضارة تتألّف من أربعة عناصر هي (الاقتصاد، السياسة، الأخلاق، العلوم والفنون)، فإنّ ما جاءت به تلك الإشارات يرجع إلى تفسير الحضارة بالمعنى المادي، وأما بالنظر إلى الحضارة المرتكزة على الأسس الروحية فمن أهم أركانها تربية الإنسان في ظِلال الايمان بالله تعالى ورسله وكتبه، حتى يكون الدافع إلى العمل والالتزام بالسلوك الأخلاقي والديني ثابتا غير متزعزع ولا متذبذب، فالحضارة المنقطعة عن التوعية الدينية حضارة صناعية لا إنسانية، وتمدُّن مادي مكتوب له الاندثار والزوال مهما قويت أركانه.

كما إن مؤسس الحضارة الإسلامية النبي محمد صلى الله عليه واله، قد جاء بسنن وقوانين دفعت البشرية إلى مكارم الأخلاق مثلما دعتهم إلى متابعة العلوم والفنون، واستغلال الموارد، وتكوين مجتمع تسود فيه العدالة والنظم الاجتماعية المستقيمة.

وليس هناك شك لكل مطّلع في هذه القواعد التي شُيّدت دعائمها في ظل وجود النبي صلوات الله عليه وآله، خصوصاً إذا قارنّا بين أسس الحياة بعد بزوغ شمس الرسالة الاسلامية بما كان قبلها من ظُلمات وجَهل.

ثم إن المسلمين شيّدوا أركان الحضارة الإسلامية في ظل الخطوط التي رسمها النبي صلى الله عليه وآله من خلال القرآن والسنّة، فأصبحت لهم قوة اقتصادية، ونظم سياسية، وتقاليد دينية وخلقية، وأعطوا العلوم المختلفة جلّ اهتمامهم، فتصدّرَ منهم العديد من العلماء المتفوّقين في كل نواحي العلم والمعرفة، ورفدوا تطور الحضارة الانسانية بشكل عام بجهود خلّاقة.

ومع ان الحضارات بمختلف مشاربها قد تميّزَ كل منها بتطوّر في جانب معين، فإن الحضارة الإسلامية تبقى على اعتزاز دائم بجمعها لكل مفاهيم العدل والتسامح والخير والرفاهية، من حيث تمسّكها بكتاب الله الذي هو دستور رباني تتماشى مفاهيمه مع كل العصور، وسنّة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله ومبادئ اهل البيت عليهم السلام.

فلا يمكن أن يكون الإسلام على الصورة التي يكوّنها المتشددون والمتطرفون من (السلفية والوهابية) الذين يستحلّون حرمات الله من خلال تكفير الآخرين والجهر بالفتاوى الداعية لقتل المسلمين وغير المسلمين، واستباحة دماء المدنيين الآمنين والنساء والأطفال لا لشيء سوى لأهداف ضالّة تنتجها اجندات مشبوهة وأفكار مريضة مهووسة بالقتل والحقد والكراهية..