الشيخ المفيد نابغة العراق ومفخرة الآفاق/ الحلقة الثانية

 

شخصيته وصفاته

 لم يكن الشيخ المفيد مقلدا لعلماء عصره من العامة والخاصة فضلا من سبقه ممن احتل موقعا كبيرا في الفكر الإمامي كالشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين فقد رد عليه الشيخ المفيد عليه في كتاب ( تصحيح الاعتقاد ) في مواطن الخلاف الناشئة بين علماء الإمامية أنفسهم كمسألة القضاء والقدر والصفات الإلهية والعصمة وغيرها فهو يرد لفظ الصدوق بعبارة ( ذكر أبو جعفر ) وبعد ذلك يورد آية ثم يرد عليه بأدلة من القرآن الكريم والحديث الشريف وأقوال الأئمة عليهم السلام ولما كان بين الاعتزال والتشيع صلات فكرية بحيث اختلط الأمر لدى بعض الباحثين فدمج الفرقتين معاً تصدى الشيخ المفيد للفصل بين الاثنين ولإزالة الخلط الذي شاع في تلك الفترة وذلك في كتابه ( أوائل المقالات ) فأوضح نقاط الالتقاء والافتراق بين الإمامية والمعتزلة فأزال هذه الشبهة بما لا يقبل الخلط.

ومن هنا فرض الشيخ المفيد نفسه على مجتمع بغداد كشخصية علمية لا يستهان بها بسبب ما امتاز به من تفوق في الفقه والحديث والكلام.

فأطلقت الألقاب العلمية عليه من أعلامها فكان لقب( المفيد) من ألقاب العلماء المعروفة وكان لا يعطى إلا للأفذاذ منهم وكان أستاذه علي بن عيسى الرماني قد منحه إياه وقيل أن القاضي عبد الجبار المعتزلي هو الذي لقبه بالمفيد بعد محاورة كلامية معه ويطلق على الشيخ المفيد لقب ( الشيخ ) بصورة مطلقة في كثير من المصادر وان كان هذا اللقب قد خص بالشيخ الطوسي وهو تلميذه فيما بعد. ولكن أذا قيل ( الشيخان ) في مصادر الإمامية فأن المقصود به المفيد والطوسي.

وصفه

وصفه الشيخ الطوسي بقوله:( أنه جليل ثقة ) وقال مترجموه عنه (انه أوثق أهل زمانه وأعلمهم ) قال ابن حجر في لسان الميزان ج5 ص368 وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ج3 ص199 :0وكان قد جمع مع علميته تدينه وخشوعه وعبادته فكان كثير الصدقات عظيم الخشوع كثير الصلاة والصوم خشن اللباس وكان لا ينام من الليل الا هجعه ثم يقوم ويصلي أو يطالع أو يدرس أو يتلو القرآن الكريم). وقد أشاد مترجموه بقدرته الكلامية وقدرته الفائقة على الجدل والمناظرة قال أبو حيان التوحيدي

( انه حسن اللسان والجدل صبور على الخصم) وتدل كثرة مؤلفاته في علم الكلام على مكانته الكبيرة في هذا العلم فهو ناظر أعلام عصره كابي الحسن عبد الجبار المعتزلي وأبي بكر الباقلاني مما جعل ابن النديم يقول: ( انه مقدم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه ).

وكانت مناظراته مع شيخ المعتزلة عبد الجبار بن أحمد قد أخذت صداها في مجتمع بغداد لان القاضي عبد الجبار قد استسلم له وقال ( انك المفيد حقا )

وله مناظرة في مجلس علي بن عيسى الرماني حول المسائل العقائدية مما أثار إعجاب الرماني من أجوبته وردوده.

       وكان الشيخ المفيد يأخذ بمبدأ الحجة والإقناع ويبتعد عن المهاترات والشتائم فيعطي صورة لطبيعة المناظرات فيقول: ( الجدل على ضربين احدهما بالحق والآخر بالباطل، فالحق منه مأمور به ومرغوب فيه والباطل منه منهي عنه ومزجور عن استعماله).

 

آراء في الشيخ المفيد

1.         اليافعي في تاريخه الموسوم بمرآة الجنان 3:28 في حوادث سنة  ثلاث عشرة وأربعمائة حيث قال (( عالم الشيعة صاحب التصانيف الكثيرة شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضا البارع في الكلام والجدل والفقه وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية )

2.         إبن النديم في الفهرست 226 حيث قال (( ابن المعلم أبو عبد الله المفيد في عصرنا انتهت إليه رياسة متكلمي الشيعة مقدم في صناعة الكلام على مذاهب أصحابه دقيق الفطنة ماضي الخاطر شاهدته فرأيته بارعا ))

3.         إبن الجوزي في المنتظم 8:11 وأبن كثير الدمشقي في البداية والنهاية

12:15 ( كان مجلسه يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف)

 

الشيخ المفيد في المنفى

بالرغم من الحركة العلمية الواسعة النطاق التي كانت تشهدها بغداد وانتشار المؤسسات العلمية في كل جانب منها والسمة البارزة في تلك الحركة هي المناظرات وبالرغم مما تحمله تلك السمة من أصالة وتطور في الفكر كان من إفرازاتها أن يستغلها نفر من الذين يتحينون الفرص محاولين إيقاع الفتنة بين صفوف المسلمين وقد أصاب الشيخ المفيد منها ما أصاب ولم تراعى مكانته الفكرية وموقعه العلمي المتميز فنفي من مدينة بغداد عدة مرات كان أولها عام 392 هـ بعد صراع مذهبي حصل في هذه الفترة ببغداد وفي عام 398 هـ تجددت الاضطرابات في بغداد وتعرض الشيخ المفيد إلى مضايقات فنفي على أثرها من بغداد للمرة الثانية ولم تشر المصادر التاريخية إلى  الجهة التي قصدها وفي عام 406 هـ  أخرج الشيخ المفيد من بغداد بعد أن نفى الوزير أبو محمد بن سهلان جماعة من العباسيين منها وكان النفي الرابع عام 409 هـ بعد أن تولى علي بن عبد الصمد الشيرازي حجبه الخليفة القادر بالله، وقتل جماعة من مسببي الفتن وهناك اضطرابات أخرى  مرت بها بغداد منها اضطراب الأوضاع الاجتماعية والسياسية وفقدان الأمن واشتداد حركات العيارين والشطار وغيرهم وتحيز بعض الخلفاء إلى جانب معين من الاتجاهات الفكرية المتصارعة كما حصل في عهد القادر بالله ( 381- 422هـ ) الذي اضطهد الجماعات التي تأخذ بالنزعة العقلية ونهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة.

كل هذه الأسباب أدت إلى احتجاب الشيخ المفيد عن مواصلة أماليه وهي في الحقيقة عبارة عن دروس ألقاها الشيخ المفيد على تلامذته في مجالس عدة وهي تتناول أحاديث مختلفة في المواعظ والوصايا والحكم والفروض والسنن والأخلاق كما تضم بعض الحوادث التاريخية وقد امتاز بالإسناد الموثوق إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام وتبلغ أمالي الشيخ المفيد اثنين وأربعين مجلسا وقد نهج فيها نهج أستاذه الشيخ الصدوق في أماليه من حيث الالتزام بمواعيد الإملاء وقد كانت على الغالب تلقى يومي السبت والأربعاء وأحيانا يوم الاثنين ولذلك جاءت هذه الأمالي غير منتظمة ومتقطعة فوصفها الشيخ النجاشي بالأمالي المتفرقة.

المصدر: سلسلة علماء أمتي

متابعة: فضل الشريفي