الحق يعلو..!

سيد صباح بهبهاني

ذهب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)إلى الرفيق الأعلى، وترك في أمته ثقلين، أمر بالتمسك بهما: أولهما كتاب الله، وعترته أهل بيته

"تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى، وعترتي أهل بيتي".

وهذا يعني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ترك في أمته قيادتين منفصلتين، أحدهما تتجسد في الخلافة، نزولا عند النص الدستوري "القرآن الكريم"، وثانيهما الإمامة "القيادة الروحية"، وجعلها في الامام علي ومن بعده في أولاده أئمة أهل البيت (سلام الله عليهم).. وقد سارت الأمة على هذا المنهج في ظل قيادتين منفصلتين، الخلافة لمدة خمسة وعشرين عاما حتى جاء دور الإمام علي (عليه السلام) لتجتمع فيه القيادتان: السياسية، والروحية معا.

وهنا!.. ألفت النظر الى أن الإمام علي (عليه السلام) حاول جاهدا رفض الخلافة -القيادة السياسية- بعد مقتل الخليفة الثالث قائلا: "دعوني والتمسوا غيري، فإني لكم وزير، خير لكم مني أميرا".

إلا أن الأمة رفضت إلا أن توليه الخلافة وهو كاره لها.. وجاءت خلافة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كضربة قاضية، تهدد مستقبل الرومانيين ووجودهم السياسي وكيانهم الفكري.

فإن وجود علي (عليه السلام) في الخلافة كان يعني بالنسبة إلى الرومان نهاية الامبراطورية، وضمها إلى الدولة الإسلامية الجديدة.. ففي عهد الخليفة الثاني انتهت دولة فارس وفلسطين ومصر، وفي عهد الخليفة الثالث اتسعت حدود الأمة الإسلامية حتى بخارى وحدود الصين، وعلي (عليه السلام) هذا الفارس المغوار العظيم، لا بد وأن ينهي آخر معقل من معاقل الاستبداد العالمي.

ولم يكن الخوف والفزع الروماني من علي(عليه السلام) لأنه ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فحسب!.. بل كانت أنباء سيرة الخليفة الجديد في الحكم، تصل إلى روما يوما بعد يوم، وتقارن بما لهرقل من سيرة في الحكم والأخلاق.. فكان لا بد من إلقاء الضوء على حياة الرجل، الذي أصبح أعظم حكام عصره، ويحكم بلادا واسعة وشاسعة، هي أكبر مما يحكمه هرقل.. وله أمة عظيمة ذات مبادئ عظيمة، أكثر عددا من أمة هرقل.. وله فلسفة حكم ونظام حكم، يناقض فلسفة حكم هرقل ونظامه.

ويوم وصلت إلى الرومانيين أخبار مفادها: أن أعظم حاكم من حكام الأرض، يجلس مع يهودي من رعاياه، أمام قاض عينه هو في منصب القضاء، ليقضي بينهما، ويرضخ للحكم الذي أصدره القاضي عليه.. كان يعني أن أجراس الإنذار بدأت تدق من جديد، وأن هذا الحاكم العظيم الذي ليس إلا علي بن أبي طالب أمير المسلمين والمؤمنين، لا بد وأن لا يدع آخر معقل من معاقل الاستبداد آمنا مصونا .

وأما قصة علي بن أبي طالب (عليه السلام) واليهودي فهي:

يروى أن الإمام علي رأى يهوديا في شوارع الكوفة، وهي العاصمة في ذلك الوقت، يمشي متقلدا درعه، الذي فقده الإمام في أحد أسفاره.. فطالب الإمام اليهودي به.. فأبى ذلك اليهودي، ولم يستعمل الإمام سلطته ليأخذه منه عنوة، بل شكاه إلى القاضي شريح.. فأحضر القاضي الشاكي والمشتكى عليه، ليجلسا أمام منصة القضاء متساويين في الحقوق، لا فرق بينهما.

الشاكي هو: علي بن أبي طالب ( عليه السلام) أعظم حاكم في عصره.. والمشتكى عليه: يهودي ذمي أي يعيش في ذمة الإسلام.

وسمع القاضي كلامهما، إلا أن الإمام علي لم يكن عنده شاهد، يشهد بأن الدرع له، فربح اليهودي الدعوى وخسرها أمير المؤمنين.. لأن النص الدستوري الوارد في كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)واضح حيث قال: (البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر).. ولم تكن للإمام ( عليه السلام) بينة.. أما اليهودي الذي أنكر، فقد أدى اليمين.

وهنا يعتذر القاضي من الخليفة الذي عينه في هذا المنصب بقوله: يا أمير المؤمنين!.. إني أعلم أنك مع الحق في دعواك، والدرع درعك، ومعاذ الله أن تكون كاذبا، ولكن أنت أعلم الناس بالقضاء!.. فالقاضي لا يستطيع أن يحكم بعلمه حسب قانون الإسلام، فلذلك ربح المدعى عليه الدعوى، لأنه أدى اليمين، وخسرتها لأنك لم تقدم شاهدا.

فيقول الإمام: لقد كنت عادلا في حكمك، إلا في أمر واحد، وهو أنك ما ساويت بيني وبين خصمي في النداء، فكنت تناديني بكنيتي احتراما لي، وتقول لي: يا أبا الحسن، وكنت تنادي اليهودي باسمه فقط.. فكان عليك إما ان تنادي الاثنين بالكنية، حتى لا يحس أحد المتخاصمين بغضاضة، وتنفذ المساواة التي أمر بها الإسلام في مثل هذه الأحوال.

إن هذه الصور الرفيعة من الديمقراطية هي التي فقدها المسلمون منذ أن انتهت خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) .. هي التي كانت إنذارا في حينها لهرقل ونظام حكمه.. فيا ترى، أحقا أن عليا(عليه السلام) قاضى اليهودي لدرع فقده، وهو يريد استرداده وهو الذي يقول: (إن دنياكم هذه عندي كعفطة عنز)، (إن خلافتكم هذه لا تساوي عندي شيئا، إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا).. أم أراد بذلك أن يجسد عدالة الإسلام في المجتمع الإنساني، وأن يطبقها على نفسه، ليكون قدوة لغيره!..

اراد الامام علي(عليه السلام) أن يعطي درسا علميا للأمة، له أبعاده العظيمة.. فمن جهة أعطى القيمة للإنسان، سواء أكان مسلما أم يهوديا أم نصرانيا وغيرهما.. ومن جهة أخرى: ضمن حرمة الفئات غير المسلمة، وحصنهم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، في ظل الدولة الإسلامية العادلة، ليعرف الكل أن لليهودي والنصراني الذمي في ظل الإسلام ما للمسلم من حقوق وواجبات، لا يمكن الاعتداء عليها.. بل يجعلهم الإسلام سواسية أمام القانون والعدالة، حتى ولو كان خصمه أمير المؤمنين.. فهذه من مكارم أخلاق أهل بيتة النبوة!.. ونعم ما قيل:

واما علي صهر طه ابن عمه .. اخوه ابو سبطيه فهو وحيدها

وإلى أن قال:

ومما روينا أن طوبى شــــبابها *** كلا الحسنين الســـيدين يسودها

هما أبوا الاشراف قــرباه من دعا *** إلى ودهـــا التنويل اني ودودها

نفى الله عنها مطلق الرجس فالورى *** عروض لدى التشبيه وهي نقودها

بآبائها الابنـــاء في المجد تقتدى *** ويربو على هـدى الجدود حفيدها

فما أكثر الأمجــــاد في خير أمة *** ولكنمــــا بيت الرسول مجيدها

ولقد نظم الإمام الشافعي (رض) في أهل البيت (عليهم السلام) إذ قال:

ولمــا رأيت النـــاس قد ذهبت بهم *** مذاهبهم في ابحــر الغي والجهل

ركبت على اسم الله في ســفن النجا *** وهم اهل بيت المصطفى خاتم الرسل

مســــــكنا بحبل الله وهو ولاؤهم *** كمـا قـــد امرنا بالتمسك بالحبل

إذا افترقت في الدين ســــبعون فرقة *** ونيفا كمـا قد صح في محكم النقل

ولم يك نـــاج منهــم غير فرقــة *** فقــل لي بها يا ذا الرجاجة والعقل

أفي فــرق الهـــلاك ال محمـــد *** أم الفرقــة اللائي نجت منهمُ، قل لي؟

فإن قلت في النــــاجين فالقول واحد *** وان قلت في الهلاك حفت عن القول

إذا كان مولى القـــوم فيهــم فإنني *** رضيت بهــم ما زال في طلهم طلي

فخلي عليــا لي امامــا ونســـله *** وانت من البـــاقين في سائر الحل

 

وإن هذا الاعتراف الصريح من أحد أئمة الفقه، الذي يرجع إليه ملايين المسلمين منذ قرون وقرون، يثبت بصورة لا شك فيها ولا جدال، أن نظرتنا في الإمامة والخلافة إنما هي نظرة ثاقبة.