الحاجة الإنسانية من المنظور الديني.. مقارنة بين الإسلام والمسيحية
زينب عبد الرحيم
تختلف النظرة إلى الحاجات الإنسانية ، وإن كانت بالإجمال يمكن أن تقسم على حاجات دنيوية وحاجات أخروية، فالرؤية الإسلامية لإشباع الحاجات الإنسانية تنطلق من الحكمة من خلق الإنسان التي حددها الله عز وجل في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1)، ومن جملة الأمر بالعبادة لله (عزّ وجل) هو الأمر بالسعي في هذه الأرض لإشباع الحاجات المشروعة وفق الوسائل المشروعة، فإذا فعلها الإنسان فهو مأجور في الإسلام، لأنَّه بهذا الفعل (الذي هو إشباع حاجة مباحة وفق وسائل مباحة) يوافق ما شرّعه الله عز وجل، وقد جاء في الأحاديث أن "الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله"(2).
وبالنظر في الحكمة من الخلق، ومعرفة مكانة مفهوم إشباع الحاجات الدنيوية المباحة في الإسلام ننظر إلى أمرٍ وتوجيهٍ آخر متفرع من الأمر العام بالعبادة، وهو التوجيه بإعمار الأرض الذي يؤخذ من قوله تعالى: "هو أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا"(3)، أي: أمركم بعمارتها من بناء المساكن وحفر الأنهار وغرس الأشجار وغيرها، فينتج أنَّ مسألة تحديد الحاجات وترتيبها ترتبط بفكرة عمارة الأرض؛ فالإسلام يقرن اعترافه بالحاجات بإنماء الطاقات اللازمة بعمارة الأرض، كما يُرتِّبها حسب درجة أهميتها من هذه الناحية.
والاعتراف بالحاجة في الإسلام يقوم على شرطين:
الأول: هو أنْ تكون الحاجات انعكاسًا صادقًا لظروف المجتمع.
والثاني: أنْ يكون تعبيرُ الأفراد عن حاجتهم مؤديٍا إلى إنماء المجتمع, وهذا يؤدي إلى إبعاد أي إسراف.
ولذا يكون التعريف للحاجات هو أنَّ الحاجة "عبارة عن مطلب للإنسان تجاه الموارد المتاحة له يؤدي تحقيقه إلى إنماء طاقته اللازمة لعمارة الأرض" وفي هذا التعريف الاعتراف بالحاجة بناءً على أنْ إشباعها يحقق إنماء طاقات المجتمع، فلا يصدق عليها وصف الحاجة إن لم يتحقق فيها ذلك(4).
أمّا في المسيحية يفوق الاهتمام بحاجات الإنسان الروحيّة ما سواها من الحاجات المادية، فلا يكاد يلتمس الاهتمام بالحياة المادية في تعاليم السيد المسيح إلا قليلا، فأغلب تعاليمه ترتكز على إهمال التمسّك بالأمور المادية من مأكلٍ أو مشرب وغير ذلك، لكون الله متكفّلٌ بتلبية هذه الحاجات ولكن لا بمعنى الغلو في الزهد فيها إلى درجة إلحاق الضرر بالنفس، وتلتمس أهمّية البعد الروحي من خلال نصوص الكتاب المقدّس وتعاليم السيد المسيح إذ يقول: "لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس" (مت6: 25، 26). وباعتبار أن الحوائج الروحية تمثّل جزءًا أساسيًّا من الحوائج الدنيوية المتّصلة بالأبعاد الإنسانية، فقد نالت الأولوية في التعاليم المسيحية فإن الأصل الكتابي، هو: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (م 4: 4).
وجاء في نص آخر: "جبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حيوية، فصار آدم نفسًا حيًا" (تك 2: 7)، وانسياقا مع هذا المفهوم فإن حاجات الإنسان لابد أن ترتبط بكل من بعديه الجسدي والروحي، ويُلاحظ أن هذه الحاجات قد تتكامل وقد تتصارع، والتصارع هنا قد يكون أمرًا منطقيًا للأصل أو الطبيعة التي تكوّن منها الجسد أو التي تكوّنت منها الروح، فحاجات الجسد سوف تنصب على الحاجات المادية الملموسة أو الأرضية، وحاجات الروح سوف تنصب على الحاجات الروحية السماوية، لأنها مخلوقة من نفخة من روح الله، وبالتالي فقد ينشأ الصراع بين الروح والجسد على من يقود الآخر أو يتسلط عليه، "لأن الجسد يشتهى ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم إحداهما الآخر، حتى تفعلون ما لا تريدون" (غل 5: 17)(5).
إن حاجات الإنسان لابد أن تجمع بين الحاجات الروحية بالإضافة إلى الحاجات الجسدية والنفسية، ولكن ما هي الحاجات الروحية؟
في النص المسيحي تتعلق هذه الحاجات بالروح والرغبة في السمو، لذلك: "اهتموا بما فوق لا بما على الأرض" (كو 3: 2). ومن أمثلتها: الحب، الصلاة، الصوم، التوبة، الاعتراف.. وغيرها.
موقف علوم النفس والاجتماع من دور الدين في الحاجات الإنسانية
وهنا يمكن لنا أن نستعرض ما يقوله علماء النفس والاجتماع عن الحاجات الروحية وصلتها بالحاجات الجسدية، حيث أنهم يقسمون المراحل التي تمر بها عملية إشباع الحاجات الروحية ومعارضتها الحاجات الجسدية عبر 3 مراحل غير محددة الطول أو المدة الزمنية لأي مرحلة (6)، وذلك على النحو التالي:
1- مرحلة التغصُّب:
إن في الفترات الأولى للسير في طريق الحياة الروحية، يمر كل فرد بصراع قوي بين روح لديها الرغبة في الجهاد لإشباع حاجاتها، وجسد ضعيف ليس لديه القدرة على متطلبات هذا الجهاد، بل على العكس يسعى الجسد لإشباع شهواته وملذاته، الأمر الذي يُحتّم على كل فرد مبتدئ أن يُجبر نفسه على الممارسات الروحية بكافة أشكالها لتحقيق البداية القوية اللازمة، ولعل أهم ما يميز هذه المرحلة هو أنها تبدأ كمرحلة أولى بإشباع بعض الحاجات الروحية ولبعض الوقت.
2- مرحلة التعوّد:
بعد قضاء فترة زمنية في ممارسة العبادات والشعائر التي بدأ بها الإنسان المرحلة الأولى لإشباع بعض الحاجات الروحية لبعض الوقت.. تتزايد قدرة الإنسان على قضاء وقت أكبر في إشباع عدد أوسع من الحاجات ولكن بعمق روحي غير كبير، وهنا يمارس الإنسان حياته الروحية من صلاة وصوم.. إلخ.، بشيء من الانتظام والاستقرار أو بشيء من الاعتياد.
3- مرحلة التلذُّذ:
إن ما يميّز هذه المرحلة هو قضاء الإنسان لمتسع من الوقت بعمق أكبر في حياة التوبة والمجاهدة لإشباع أكبر قدر ممكن من الحاجات الروحية، إذ ترتفع رغبة وقدرة الإنسان أكثر على الجهاد الروحي، ومن ثم يعيش الإنسان حياته الروحية وينمو أكثر فأكثر.
ويرى بعض علماء الاجتماع أن الإنسان بحاجة لقوة عقلانية ربانية تفسر معاناة وآلام البشر وقبول حقيقة الموت(7)، والدين لا يخص العالم الآخر بل يعمل تأثيره في العالم الأرضي، فحتى الخلاص الأخروي لابد فيه من البحث عن "مظهر لهذا الخلاص في الوقت الحاضر هنا في هذا العالم"(8)، والديانات ذات الطابع العملي هي الوحيدة القادرة على إضفاء قيمة للأوامر الأخلاقية، والأديان نظام متكامل من القيم، متداخل في الممارسات(9)، تهتم بطرق استبطان الأفراد في توجيه سلوكهم الحياتي العملي والنظري.
الخاتمة:
كما ذكرنا فإن النظر إلى الحاجات في المسيحية يؤكد على الجانب الروحي بلحاظ أن المجتمع في ذلك الوقت كان يتجه بشدّة إلى المادية، فكانت المسيحية علاجا لسدّ الحاجة الروحية لذلك المجتمع، ولـمّـا جاء الإسلام مكمّلا ومتمما للشرائع السماوية التي سبقته فإنه أسّس لتحقيق مفهوم التوازن بين الحاجات الروحية والمادية، كما ورد في النص القرآني من قوله تعالى: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"(10) إشارة إلى استعمال ما وهب الله الإنسانَ من المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربه والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة. "وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا"، أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، وهي من الحوائج الدنيوية للإنسان "فإن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، .... فآت كل ذي حق حقه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1. الذاريات: 56
2. وسائل الشيعة (الإسلامية) - الحر العاملي - ج ١٢ - الصفحة ٤٣
3. هود: 61
4. مفهوم الحاجات في الإسلام. عبدالله عابد، ص19
5. كتاب التعاليم المسيحية.. ومبادئ الفكر الاقتصادي - أ. ناجي جيد
6. كتاب المفاهيم المسيحية والفكر الإداري المتجدد: فلسفة "الإدارة بالمحبة" - أ. ناجي جيد
7. هيرفيه ليجيه، بول ويلام، سوسيولوجيا الدين: ص92
8. هيرفيه ليجيه، بول ويلام، سوسيولوجيا الدين: ص93
9. شروخ، علم الاجتماع الديني العام: ص26
10. القصص: 77