من علل التعبير القرآني.. الفرق الدلاليّ بين (الأبد والأمد والدهر)

أ.م.د: سهيل محمد حسين

الدهر الطويل الّذي ليس بمحدود الممتدّ الّذى لا يتجزّء كما يتجزّء الزمان، وذلك أنّه يقال زمان كذا ولا يقال أبد كذا. إذا كان المقام مقام تفصيل الجزاء أو في مقام الإحسان في الثواب أو الشدة في العقاب يذكر (أبداً) وإذا كان في مقام الإيجاز لا يذكرها (1). ويكون بمعنى "الخلود"  ففي سورة النساء آية 57 (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً) هذه الآية فيها تفصيل للجزاء فذكر فيها (أبدا)، أما الآية 13 من سورة النساء (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ليس فيها تفصيل فلم يذكر فيها (أبدا). كذلك في سورة البيّنة لم يذكر مع الكافرين (أبدا) ؛ لأنه لم يفصّل في عقابهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) آية 6.

والسياق القرآني يُعضِّد ذلك بقوله تعالى:

{إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} [المائدة: 24]. يمتدّ الزمان الى آخر دوامهم فيها ويعنون بقولهم: "أبدا"، أيام حياتنا "ما داموا فيها"، يعنون: ما كان الجبارون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم وأمروا بدخولها". فالسياق تطلب لفظة" أَبَدًا" للتفصيل، وقوله تعالى أيضاً: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة: 83]. يمتدّ عدم خروجهم الى أن يبقى حيّا. وكذلك قوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]: أي ما دام كنت حيّا وبقي هذا المسجد. ويماثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20]: أي ما داموا موجودين. وقوله أيضاً: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]: أي ما دام الطرفان باقيين. وقوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} [التوبة:119] ،... {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]: أي بمقدار خلُودهم. وأمّا نصب هذه الكلمة في جميع موارد استعمالها: فعلى الظرفيّة، فانّها من ظروف الزمان المبهمة الّتي لا تحصرها حدود، وقد استعملت في القرآن بمدة ممتدة غير محددة ولا مجزءة، والعاملي يخالف ما تقدم ويشترط" للأبد" الزمن الذي له بداية.

والأَمَدُ: مدّة لها حدّ مجهول إذا أطلق، وقد ينحصر، نحو أن يقال: أمد كذا، كما يقال: زمان كذا. قال تعالى:  ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وبَيْنَه أَمَدًا بَعِيدًا﴾ آل عمران/ 30.

آيات ورد فيها "الْأَمَدُ":

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) ﴿١٦الحديد﴾

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) ﴿٣٠ آل عمران﴾

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ) ﴿١٢٤ آل عمران﴾

 (بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) ﴿١٢٥ آل عمران﴾

(ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) ﴿٦ الإسراء﴾

(كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) ﴿٢٠ الإسراء﴾

(ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) ﴿١٢ الكهف﴾

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ) ﴿٥٥ المؤمنون﴾

(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ) ﴿١٣٢ الشعراء﴾

(أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ) ﴿١٣٣ الشعراء﴾

(فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) ﴿٣٦ النمل﴾

(وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ) ﴿٢٢ الطور﴾

(وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) ﴿١٢ نوح﴾

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) ﴿٢٥ الجن﴾

ونلحظ في السياق القرآني إنَّ (الأَمَد والأبد) يتقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدّة الزمان، التي ليس لها حدّ محدود، ولا يتقيد، لا يقال: أبد كذا. والأَمَدُ: مدّة لها حدّ مجهول إذا أطلق، وقد ينحصر، نحو أن يقال: أمد كذا، كما يقال: زمان كذا. قال تعالى:  ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وبَيْنَه أَمَدًا بَعِيدًا﴾ آل عمران/ 30.

والدّهر في الأصل: اسم لمدّة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿ هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ﴾ الدهر / 1.

ثمّ يعبّر به عن كلّ مدّة كثيرة، وهو خلاف الزمان، فإنّ الزّمان يقع على المدّة القليلة والكثيرة. "أنّ الأصل الواحد في هذه المادّة والكلمة: هو مجموعة ما- يمتدّ من الزمان وما فيها من الكائنات، وهذا المعنى عند الإطلاق يكون من بدء الزمان والخلقة الى آخرها، ويطلق بالقرائن على مقدار ممتدّ منها مجازا، فيقال: دهر فلان.

وهذا المعنى هو الفارق بينها وبين الزمان والمدّة والأبد وغيرها. وبهذا الاعتبار يقول الكفّار- {وما يهلكنا إِلَّا الدَّهْرُ}- فينّسبون الحوادث والجريانات الواقعة الى الدهر، وأمّا الزمان من حيث هو أو امتداده أو الأبديّة وأمثالها: لا تصلح لأن تكون مؤثّرة في الحوادث، فانّها معان- اعتباريّة ومن الأعراض التي لا وجود لها في أنفسها. وأمّا جملة - فانّ الدهر هو اللّه‌: فانّهم يتوجّهون الى اللّه المتعال الّذى لا مؤثّر في العالم الّا هو، ويعبّرون عنه بالدهر، فالاختلاف لفظي، والقدرة المؤثّرة والحىّ العالم المحيط الأبدي هو اللّه العزيز المتعال، والدهر ظهور من رحمته وقدرته، ونظم العالم اثر من علمه وتدبيره. نعم كلّ فرد من افراد الإنسان يتصوّر ويتعقّل للربّ تعالى مفهوما على مقتضى‌ فهمه وإدراكه وعلى سعة معرفته ونورانيّته، عالما كان او عارفا أو جاهلا أو محجوبا، فمن كان محجوبا بالكليّة عن نوره وكافرا بالحقّ : فلا يتعقّل الّا ما يشاهد ويرى، ولا يصل فكره ونظره الّا الى ما يتراءى من العظمة والاحاطة والنظم العجيب والقدمة والثبوت للدهر، غفلة عمّا فوقه وكافرا به. ثمّ إنّ الطبيعة المطلقة تعبير آخر عن الدهر: والفرق بينهما أنّ الدهر هو الزمان الممتدّ مع ما فيها من التكوينيّات، والطبيعة هي التكوينيّات الموجودة المنظّمة في الزمان الممتدّ، فالنظر الأوّل في الطبيعة الى التكوينيّات. وبهذا اللحاظ يطلق على الدهريّة : عنوان الطبيعيّة أيضا.

ونحن نستدلّ عليهم: بالنظم وما يتراءى من التغيّر والاختلاف والتلوّن المتناسب المنتظم في الطبيعة، فهي تدلّ دلالة قطعيّة على خالق عالم قادر مريد حي. فظهر أنّ تفسير الدهر بالزمان والأبد ونظائرهما: تفسير ناقص. وأمّا مفهوم القهر والغلبة: فالظاهر أن يكون الاشتقاق انتزاعيّا وهذا المفهوم هو المتفاهم من حكومة الدهر وسلطانه واحاطته. {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] - أي مقدار معيّن محدود من مطلق الدهر الممتدّ المحيط الأبدي. فهذا القيد يدلّ على امتداد الدهر وكونه غير معيّن، والاستفهام للتقرير. {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية : 24]. {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية : 24] - فهم لا يتجاوز ادراكهم عن الحياة الدنيا المادّيّة النازلة القريبة المحسوسة ، وانّهم لغافلون عن الحياة الآخرة، وينسبون التأثير في هذه الحياة الى الدهر، غافلا عمّا فوقه وعمّن وراءه من العزيز الحكيم.

وأجاب تعالى عن قولهم- {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24].

المراجع:

(1)   ينظر: التحقيق في كلمات القرآن، حسن مصطفوي، ج1/21ـ22.

(2)    ينظر: مفردات الراغب الاصفهاني مع ملاحظات العاملي:37.

(3)   لمسات بيانية، فاضل السامرائي: 102.

(4)   ينظر: التحقيق في كلمات القرآن الكريم : ج3/277 ـ 280.