الأمانة عند امير المؤمنين (عليه السلام)

يحيى الفتلاوي
في ذكرى ولادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام نتوجه الى الفرح والابتهاج وعرض كل ما من شأنه ابرازها، ولكن في جانب آخر لا بأس بعرض العبر والدروس التي قدمها لنا وللبشرية امير المؤمنين عليه السلام، وخاصة ان المجتمع برمته بحاجة الى التذكير بتلك المآثر الرائعة والدروس الناصعة لسيد الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنقول:
 يعلم الجميع أن حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام زاخرة بالعبر والدروس والحكم الهادية إلى الطريق الصحيح في مجمل جوانب هذه الدنيا التي ما ترك الإمام عليه السلام مناسبة جاء ذكرها فيها إلا وذمها، وصولا إلى طلاقها ومغرياتها ثلاثا.
ورغم ذلك الفراق الكبير بينه عليه السلام وبين الدنيا إلا انه لم يترك طلابها وحدهم معها بل راح يعلمهم ويرشدهم إلى أهدى واسلم السبل للتعايش معها ومن بين أهم تلك الدروس التي كان يؤكد عليه السلام عليها في مناسبات عدة هو درس حفظ الأمانة وبخاصة للقائمين على أمانات المسلمين العامة والخاصة.
والمتابع لسير الحياة الإنسانية يلاحظ ودون أي عناء أن ذلك الدرس ينبغي تطبيقه بكل حذافيره من قبل أولئك المسؤولين على أمانات الناس بدءا من أعلى الدرجات الوظيفية الخاصة بها وانتهاء بأدناها.
ومن بين أهم تلك الدروس في حفظ الأمانة ما حدث لأمير المؤمنين مع عبد الله بن جعفر بين أبي طالب (عليهم السلام) وهو صهره وكان من اقرب المقربين إليه حينما أصابه الضنك فجاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام طالبا شيئا من بيت مال المسلمين فما كان جواب أمير المؤمنين (عليه السلام)إلا أن قال له: ما أجد لك شيئاً إلا أن تأمر عمّك أن يسرق فيعطيك.
وقد تكررت هذه الحادثة مرة أخرى مع أخيه عقيل بن أبي طالب حين جاءه قائلا: أعطني ما أقضي به ديني.فقال عليه السلام : فكم دَينك يا أبا يزيد؟
قال: مائة ألف درهم. قال عليه السلام : والله، ما هي عندي ولا أملكها، ولكن أصبر حتى يخرج عطائي فأواسيكه، ولولا أنّه لابد للعيال من شيء لأعطيتكه كله.فقال عقيل: بيت المال في يدك وأنت تسوفني إلى عطائك؟ وكم عطاؤك، وما عسى يكون، ولو أعطيتنيه كله؟فقال عليه السلام : ما أنا وأنت فيه إلا بمنزلة رجل من المسلمين.
ـ وكانا يتكلمان فوق قصر الإمارة مشرفين على صناديق أهل السوق ـ
فقال لـه علي عليه السلام : إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه!فقال: وما في هذه الصناديق؟ قال: فيها أموال التجّار.قال: أتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد توكلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك أموالهم وقد توكّلوا على الله وأقفلوا عليها. 
ثم قال لـه علي عليه السلام في صيغة استثارة إيمانه وخلقه: وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي وخرجنا جميعاً إلى الحيرة، فإنّ بها تجاراً مياسير، فدخلنا على بعضهم وأخذنا ماله. فقال عقيل: أو سارق جئت؟! 
قال: تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً» *.
نعم هكذا هي الخيارات التي كان يسوقها أمير المؤمنين عليه السلام لمن يطلب منه خيانة الأمة في أماناتها، ليقدم من خلالها درسا لكل مسؤول عن أمور الناس وبخاصة المسلمين منهم بهذا الصدد، ولقد سقنا هذا المثال لكي نقول لكل القائمين على أموال ومنافع المسلمين بضرورة مراعاتها والحفاظ عليها والسعي في إنمائها فضلا عن إيصالها إلى مستحقيها دون تغليب لجوانب القرابة والنسب والعلاقات الاجتماعية الأخرى التي أصبح أثرها واضحا اليوم في مجتمعاتنا مع الأسف الشديد، وأصبح إيثار رضا الناس على رضا الله تبارك وتعالى سنة وقانونا .
وهذا الدرس لا ينبغي أيضا حصره في فئة صغيرة متمثلة بالمسؤولين فقط بل ينبغي التشديد على كونه رسالة وإشارة ودرسا للناس كافة بالحفاظ على كل أمر مادي أو معنوي يقع في خانة حقوق الآخرين، وقد أكد مراجعنا العظام وعلماؤنا الإجلاء كثيرا على ضرورة المحافظة على المال العام وعدم التجاوز عليه ولكننا وللأسف الشديد نشاهد في كل يوم خروقات كبيرة وتعديا سافرا على تلك الأموال والحقوق.
ومن تلك الخروقات - على سبيل المثال-  ربط بعض الأجهزة المنزلية الكهربائية وبخاصة أجهزة التكييف على التيار الكهربائي المباشر دون إمراره بعداد الصرف (الميزانية) وكذلك الأمر بخصوص الماء واستخدامه في أغراض غير الأغراض التي من اجلها تم تجهيز المنازل به كسقي الحدائق أو التمتع برشه أمام باب الدار وغيرها، كما أن من أوضح تلك التجاوزات ما يحصل من تعدٍ على الأرصفة وجعلها محلات مفتوحة أو ساحات لعرض مواد المحلات علما أن تلك الأرصفة صممت للمارة فقط، مما حدا بالمارة أيضا أن يتجاوزوا على الطرق الخاصة بالمركبات.
إن كل تلك الخروقات وأمثالها ما هي إلا بمثابة تطبيق عملي ولكن بشكل آخر لسرقة حقوق الآخرين، فمن يريد أن ينتهج طريق الحق الذي انتهجه أمير المؤمنين عليه السلام  فعليه من الآن فصاعدا أن يتراجع عما اقترفه ويسعى لتصحيح تلك الأخطاء التي وقع فيها ويتوب عن التجاوز على مقدرات الناس وحقوقهم، وان لا يجعلوا الدنيا اكبر همهم، بل ان يجعلوا رضا الله فوق رضا الجميع، ولنتمثل جميعا بقول أمير المؤمنين عليه السلام حينما قال: 
لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين : رجل أذنب ذنباً، فهو يتدارك ذلك بالتوبة.. أو رجل يسارع في الخيرات.
------------------------------
*المناقب: ج2 ص108ـ109 فصل في المسابقة بالعدل والأمانة