كوثى مدينة نسيها التاريخ

 

ضياء أبو الهيل

بلد الرافدين مهد الحضارات وفجر السلالات من سومر واكد وبابل واشور، في عصور الظلام الغابرة الهمجية انبرت حضارات العراق القديمة في المعرفة والعلوم والتمدن والتي علمت الأمم الكتابة والحرف والادارة واختراع آلات الزراعة وبناء الزقورات والمعابد والابنية واكساء الشوارع وشق الأنهر وابتكار أساليب الري وتأسيس دولة وجيش وتشريع القوانين في مختلف نواحي الحياة، شعوب حضارة وادي الرافدين انجبت علماء في الفلك والرياضيات والأطباء والفن والادباء وحتى آلات العزف  وهم من اول من تحول من الحياة الريفية الى المدنية الحضرية , العراق في جنوبه ووسطه وشماله مدن اثارية تاريخية هامة لتلك الحضارات العريقة واهمها بابل والناصرية والموصل.

هناك الكثير من المدن التاريخية القديمة التي هي في طي النسيان او لم يسلط الضوء عليها ومنها مدينة كوثى تسمى حاليا ( اجبلة) في محافظة بابل .

من المعالم الأثرية التي كان لها صدى واسع في فجر السلالات، ولكن التأريخ أهملها فلا نجد إلا إشارات بسيطة عن ماضيها الحضاري ولها عدة أسماء منها: كوثه أو كوثا، وتعرف بالبابلية (كوتم)، وبالسومرية (غودوا)، وتعرف بـ(تل إبراهيم) مدينة سومرية قديمة تعد من أبرز مدن بابل الشمالية، وكانت تقع على نهر الفرات بحدود الالف الثالث قبل الميلاد، وهو المجرى الشرقي القديم المعروف بمجرى كوثى (قبل أن يتغير مجراه إلى موقعه الحالي)، ولقد أورد علماء اللغة بعض معان لها منها : الكوثى القصير، وكوّث الزرع تكويثا إذا صار أربع أو خمس ورقات، واتفق بعض العلماء على أن المفردة ليست من العربية، وكانوا يعنون كوثى الدالة على النهر أو المدينة.

لا شك أن المدينة موغلة بالقدم ومرت عليها أدوار تاريخية في عصور السومريين والأكديين والبابليين والفرس، ومن ثم العهد الإسلامي، كما أن أهمية مدينة كوثى تأتي من كونها مركزا لمحافظة بابل، وتبعد عن (الحلة) 50 كيلومترا، وتتبع إداريا اليوم لمحافظة بابل.

ويعتقد  بعض المؤرخين أن هذه المدينة هي مسقط رأس النبي إبراهيم (عليه السلام)، ويبدو أنها كانت عامرة ومتحضرة وازدادت أهميتها عندما ظهر دين الله بين شعبها وحمل رسالة التوحيد، وقد ذكرت في التوراة مرتين، واشتهرت كوثى بكونها مركز عبادة أله العالم الأسفل المذكور بالتوراة (نرجال) وله معبد كبير ( زقورة ) تسمى (اي نانار)، وتذكر بعض المصادر أن (دونكي) أحد ملوك أسرة أور  الثالثة حوالي سنة 2300 قبل الميلاد أعاد بناء المعبد والزقورة وجددهما، كما عثر على لبنة في موضعها الحالي تحمل اسمها، تعود إلى عصر نبوخذ نصر، كما ضمّت كلية كبيرة اشتملت بعض ألواحها على تاريخ الخليقة البابلي، ويذكر أن الملك الآشوري تجلات بلاصر قدّم سنة 729 قبل الميلاد أضحية إلى معبد (نركال) في كوثى، وفي العصر البابلي الحديث (626- 539 ق.م) كان لمدينة كوثى ونهرها الذي يصل إلى مشارف مدينة بابل أهمية قصوى فقد كانت من المراكز الدينية المهمة، ومن المدن الكبرى في دولة بابل الحديثة.

وكوثى في ثلاثة مواضع، في سواد العراق، وفي بابل، وبمكة وهو منزل بني عبد الدار، وروي عن ابن الأَعرابي أَنه قال: "سأَل رجلٌ الإمام عليّاً (عليه السلام) فقال: أَخبرني، يا أَمير المؤمنين، عن أَصلكم، معاشرَ قُرَيْشٍ، فقال: نحن قومٌ من كُوثى"، وعن أهمية كوثى قال حبر الأمة عبد الله بن عباس (نحن معاشر قريش حي من النبط من أهل كوثى)، والنبط عند العرب تعني ساكني العراق، البابليين وغيرهم من الأقوام القديمة، وتشير كتب التاريخ بأن غالبية الأنبياء وسيدنا ابراهيم (عليهم السلام)، من أصل شنعاري، وشنعار هو الأسم الأقدم لوادي الرافدين وهو " سين آر "، الذي يعني سهل أو مرج، وإذا صح هذا القول فإن ذلك يدل على أنما قصدا بالنبط (نبايوت)، وهو (ابن إسماعيل) في التوراة، وأما  (كوثى)، فقصدا بذلك موطن إبراهيم (عليه السلام)، ويذكر أن كوث أو كوثى كان من أولاد نوح (عليه السلام) الذي عاش محنة الطوفان في بابل ثم رحل عنها نحو الغرب، ولقد ذكر الطبري (كوثى) في تأريخه في سبعة مواضع، وابن الجوزي في ستة، وابن الأثير والمسعودي في موضعين، والحموي في ثلاثة، والبلاذري والأصفهاني والزمخشري في موضع واحد، ومصادر أخرى عديدة، ولقد تنقّلت المفردة بين أن تكون المدينة المطلة على النهر، أو هي النهر ذاته كما عند المسعودي في مروج الذهب وتأريخ الطبري الذي ذكر أن أم النبي ابراهيم (عليه السلام) خرجت منها وأن أباها هو من حفر النهر (نهر كوثى).