بيروت عاصمة الحداثة والأدب

 

بقلم : نزار قانصوه

 تتربّع بيروت  بين عواصم العالم العربي على أنقاض غبار الحرب اللبنانيّة والأزمات الداخليّة والخارجية وما عاشه لبنان من تداعيات وانقسامات سياسيّة وفكريّة حملت معها آثارًا أليمة ما زلنا نعاني منها إلى يومنا هذا.

وفي المقلب الآخر ، بعد ان أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) بيروت مدينة مبدعة في الأدب وعاصمة عالميّة للكتاب ، كلّ ذلك إقرارًا واعترافًا بالمكانة الإبداعيّة لها لما حملته من تراث ثقافيّ في العصر الحديث.

من صخرة الروشة إلى ساحة البرج وصولًا إلى مقاهي شارع الحمراء يزداد العبق الفكري لمدينة البدايات ، ليصبح فنجان البنّ المعتّق من رائحة جبران وأجنحته وميخائيل نعيمة ومذكراته وإليّا أبي ماضي وخمائله ، نقطة جذبٍ للكثير من الأدباء والباحثين والشعراء من داخل لبنان ومن البلدان المجاورة .

كما كان لتأسيس مجلّة شعر على يد الشّاعر اللبناني يوسف الخال ومعاونيه مدماكًا أساسيًّا لوضع الشعر العربي في سلّم الحداثة الشعريّة ، مستقطبة عددًا من الشعراء والأدباء أمثال أدونيس ومحمد الماغوط وخليل حاوي وأنسي الحاج وبدر شاكر السياب وغيرهم.

ولا شكّ في أنّ الانفتاح الأدبي العالمي عن طريق الترجمة والحوار واللقاءات الفكريّة والمراسلات ساهم في توسيع مفهوم الحداثة والتجديد الفكري الذي حمل على عاتقه قضايا اجتماعية ووطنيّة إنسانيّة.

كذلك احتضنت بيروت هذه الحداثة بنوعيها الفكري-الرؤيوي والشعري لتثور على السائد وتتحوّل إلى عاصمة للأدب ومرسى للشعراء المحدثين الذين هجروا بلادهم وتنشّقوا هواءها الدافىء وطينها المجبول بالحريّة والحياة.

إذ احتضن شاعر الجرأة والتمرّد "محمد الماغوط" بيروت كما احتضنته بوصفه إياها :

" بيروت

يا أمي وطفلتي ومعبودتي

بك جعت وشبعت

قاومت واستسلمت

حاولت وناقشت وصرخت

لم لا تكون بيروت وحدها الخلال الخصيب ؟ "

ايضًا تبدو الروائيّة السوريّة غادة السّمان من اكثر الروائيين الذين كتبوا عن بيروت ففي العام 1965 نشرت روايتها " لا بحر في بيروت " ،وعام 1975 رواية "بيروت 75"، وعام 1976 "كوابيس بيروت" ،ولم يبخل الروائي اللبناني "توفيق يوسف عواد" عن بيروت فقدّم روايته المشهورة "طواحين بيروت" عام 1992 ، وغيرهم من الكتّاب والروائيين الذّين مجّدوا بيروت بريشتهم الملوّنة بحبر السّواقي والمبلولة من خبز الفقراء على موانىء البحر الأزرق.

لم تستسلم بيروت بالرغم من العواصف والصراعات والحروب التي تعرّضت لها ، بل ظلّت عاصمة السّحر والجمال والأدب ، قامت من اجل الحبّ والتضحية ، قامت من أجل الإنسان ، كما وصفها الشّاعر نزار قبّاني:  

 "قومي من تحت الموج الأزرق ياعشتار

أنت خلاصات الأعمار

قومي من  أجل الحبّ ومن أجل الشعراء

قومي من أجل الخبز ومن أجل الفقراء "

أضف إلى ذلك، نجد الحالة الحداثويّة التي انطلق منها هؤلاء الشعراء والروائيين وسادت على أيديهم لم تحرّر الشعر من قيود الوزن التقليدي فحسب ، إنّما أشعلت نيران الغضب والجرأة والتمرّد على الواقع المألوف وميتافيزيقيا الجمود .

والحداثة الفكريّة صبغت اللغة بأفكار وتجارب تتماشى مع هذا العصر انطلاقًا من موضوعات روحية عميقة تتصل بالغور الإنساني المطلق ، وذلك بحمل راية الرّفض والوقوف على أنماط تتماشى مع الواقع لأجل الواقع.

وهذا الجديد لا يكون جديدًا إلا إذا تعرّض للقسوة والألم والمعاناة ، فبيروت بالرغم من كلّ ما تعرّضت له من نكبات وصراعات وأزمات سياسيّة واقتصاديّة وصلت إلى حضارة فكريّة متألّقة قائمة على الأدب والثقافة والفنّ والإبداع ،فمبدأ التجديد ديدنها الوطني لتنبعث كلّ يوم من جديد كطائر الفينيق أبت أن تولد إلّا من رمادها.

متابعة: فضل الشريفي