د. طه عبد الرحمن .. سؤال الدين والأخلاق! (1944م - 0000)

 

هل من الممكن تأسيس ثقافة عربيّة إسلاميّة للحوار مع الآخر الغربي المتسيّد اليوم للمشهد الثقافي والتكنلوجي على كوكب الأرض من خلال قيم فكرية وفلسفية يؤمن المسلمون بأنها قيم كونية لأن مصدرها الحكمة الإلهية المريدة خيرا للبشرية لا العقل البشري الذي قد يضل أو ينحرف أو يزوغ عن مساره الذي حدد له ؟

هذه الأسئلة المحيّرة والحارقة ظلت مدارا للاشتغال الفلسفي والفكري العربي في العصور الحديثة التي اصطدمنا فيها مع الغرب من خلال الغزو والاحتلال أو من خلال التلاقح الفكري والثقافي للطلبة المسلمين الدارسين في الجامعات الأوربية، ويظل الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن المولود سنة 1944م في مدينة الجديدة بالمغرب ايام كان هذا البلد العربي المسلم تحت نير الاحتلال الفرنسي المعروف بهيمنته الثقافية متصدرا قائمة الذين نقدوا الأفكار الحداثية الغربية، من خلال مشروع فلسفي يسعى إلى بناء نسق أخلاقي يحاول إخفاء ما يسميه (سوأة العالم الكبرى) التي جاءت نتيجة للأخلاق المقلوبة التي روج مفكرو الحداثة الغربيون بالضد من فكرة الفطرة الإنسانية التي جبل عليها خلق الله أجمعين.

  عشق الدكتور طه الفلسفة وأخلص لها، وعاش قريبا من شواطئها معيدا ومدرسا في الجامعات المغربية والعربية والأوربية (السوربون خصوصا) دون ان يتنازل عن نوازعه الإسلامية الفطرية التي تشرّبها طفلا صغيرا على يدي والده الكريم الذي علّمه مبادئ العربية وحفّظه أجزاء من القرآن الكريم وأساسيات الفقه الإسلامي على الطريقة المغربية المعروفة بوسطيتها واعتدالها.

وقد تابع طه عبد الرحمن دراسته الابتدائية في مدينة دكالة، منتقلا بعد ذلك إلى المدينة الكبرى المجاورة (الدار البيضاء) ليكمل فيها دراسته الثانوية، ثم حوّل وجهته صوب العاصمة الرباط حيث حصل على شهادة الإجازة في الفلسفة. وهو ما دعاه الى متابعة قراءاته في الدراسات المنطقية والعقلانية، إذ تحصل على شهاداته العليا في المنطق وفلسفة اللغة وتاريخ العلوم، وقد أتاح له هذا الاطلاع الواسع فيما بعد القدرة على دحض معطيات العقل الأوربي الذي يبني جوهر فكره الأخلاقي على إنكار معتقد (توارث الخطيئة الأصلية) المترسخ في المسيحية التاريخية عبر الزمن، فضلا عن تفنيده لفكرة (الإنسان الفائق) أو (السوبرمان) العائدة لفيلسوف الحداثة الألماني (فردريك نيتشة) والتي اخترعها بديلاً عن فكرة الإله مما أسهم في إفساد العالم وتخطي الحدود الانسانية التي وضعها الله، وأشهد عليها خلقه في عالم الذر!

وعند تدريسه لمادة الفلسفة في الجامعات المغربية اختار طه عبد الرحمن الإبحار ضد التيار اليساري المهيمن في سبعينيّات القرن الماضي والذي حاول أن يربط ما يكتب وما يدرس من مناهج بالمقولات والمفاهيم التي تندرج تحت إطار عام محصور ضمن مفاهيم الحداثة الغربية وأخلاقياتها.

 وقد أسس عبد الرحمن متنه الفلسفي على الجمع بين التحليل المنطقي العقلاني وما تجود به علوم اللغة الحديثة من لسانيات وسيميائيات وغيرها، خاصة وأن الرجل كان أول من درس المنطق وفلسفة اللغة بجامعات المغرب العربي، هذا فضلا تأثره بإمدادات التجربة الصوفية الإسلامية التي اغترف من معينها كثيرا، مما لوّن متنه الفلسفي بمشارب شتى، فتارة تراه يمتح مفاهيمه الأساسية من التراث الإسلامي وأخرى تجده مستعيرا بعض مقولاته الفلسفية وبعض إجراءاته من الفكر الغربي المعاصر، خاصة فيما يتعلق بنظريات الخطاب والمنطق الحجاجي وفلسفة الأخلاق.

ومما استشكله هذا الفيلسوف العربي على العقل (الغربي) المجرد كونه عقلا له حدود لا يمكن أن يتجاوزها، كما أنه لا يجيب عن كل الأسئلة الإنسانية إلا بمعونة تقدمها معرفة قادرة على ولوج تلك الحدود والخوض فيها، وهي المعرفة الروحية التي أهملتها العقلانية الأوربية صانعة الحضارة المادية الحاليّة، مما دُفعت نتيجة لهذا الإهمال الأثمان باهظة من شعور إنسان هذه الحضارة بالاغتراب والقهر والاستلاب الروحي ومن إحساس مرعب ومدمر بلا جدوى هذا الوجود وعبثيّته.  

وتأسيسا على ما سبق يقترح طه عبد الرحمن –حلا للإشكالية-  نسقا عقليا أوسع لتجاوز النسق العقلاني الضيق بصورته الأوربية المجردة، وهو ما يصطلح عليه: العقلانية المسددة  كبديل ممكن لمعالجة مشكلة حدود العقل المجرد، وذلك من خلال مقترحات ضروريّة لهذا العقل، ويتم هذا من خلال الربط بين النظر المجرد وبين العمل على مقتضى الشرع والدين، فيقول بهذا الخصوص: ( ولما كان العقل المجرد بفضل تنزيله على العمل وتوجيهه على مقتضاه يأخذ في ترك وصفة العقلاني الأصلي ليتجه إلى الاتصاف بوصف عقلاني أفضل وأعقل، وارتأينا أن نخص هذا العقل الذي يسدده العمل ويجدد لباسه باسم (العقل المسدد) ....الخ)

هذا العقل المسدّد قادر على توثيق العرى بين الدين والأخلاق وعلى كشف مستورات العلاقة بينهما، وهي علاقة أخذت مجالا واسعا للشدّ والجذب بين الفلاسفة والمفكرين منذ قديم الزمان وحتى يومنا هذا، وهنا يقدم فيلسوفنا المجدد تصورا خاصا عن هذه العلاقة، ملخصه: إن هناك أنموذجا يسميه (دهرانيا) اختص بفصل الدين عن الأخلاق وقد اتخذ هذا الأنموذج أربع صيغ مختلفة ترد كلّها الآمريّة الإلهيّة وترفضها عن جهل بكل أبعادها، وهذه الصيغ هي: الصيغة الطبيعية التي تقول بآمرية الضمير، والصيغة النقدية التي تقول بآمرية الإرادة، والصيغة الاجتماعية التي تقول بآمرية المجتمع، والصيغة الناسوتية التي تقول بآمرية الإنسان (السوبرمان أو الإله) ويرى أن هذا الأنموذج بصيغه الأربعة يرد الآمرية الإلهية لأنه مبني على علاقة فاسدة بالله –جلّ شأنه- وذلك لأنها صيغ لا تقدر الإله حقّ قدره على المستوى الفلسفي، فما ظنك بذلك دينيّا؟

لذلك يحتم هذا المتفلسف المسلم بناء تصور أو أنموذج بديل لا يقع فيه فساد التصور الذي وقع فيه الأنموذج (الدهراني) وهذا الأنموذج يأخذ عند طه عبد الرحمن مصطلح ( النموذج الائتماني) حيث يختص بالأخذ بمبادئ أخلاقية خمسة، أولها مبدأ الشاهدية الذي يخرج الإنسان من مشقة التخلّق إلى متعة التخلّق ناقلا القيم الأخلاقية الى رتبة جمالية تسمو بها، وثانيها مبدأ الآياتيّة الذي يُخرج العالم من ضيق الظواهر وانفصالها إلى سعة الآيات واتصالها، وثالثها مبدا الإيداعيّة الذي يُخرج الإنسان من التسلّط على الأشياء ورغبة امتلاكها إلى الترفق بها وتقديم حقوقها على حقوقه بها، ورابعها مبدأ الفطريّة الذي يردّ التخلّق الظاهر إلى أصوله في أغوار الباطن مستبدلا بالتخلّق النفسي العاجز التخلّق الروحي المتكامل، وآخرها مبدأ الجمعيّة الذي يُخرج الإنسان من تخليق ذاته بعضا إلى تخليقها كلّا – باطنا وظاهرا - حتى يسترجع إنسانيّته كاملة غير منقوصة، كما يسترجع روحانيته واسعة غير محصورة .