المتحف الوطني في اللاذقية.. شاهد على أفول حضارات وانبعاث أخرى

غانيا درغام

حجارة لو أطلتَ النظر إليها، ستظنّ أنها تبوح لك عمّا مرّ بها من أسرار وحوادث عبر التاريخ... قديمة صامدة جميلة لازالت تلهم من يراها، ولازالت تجذب الناس إليها، كأنها تملك حياة تأبى التخلي عنها، تلك الحجارة جُمعت وبنت المتحف الوطني في اللاذقية، الذي يعود تاريخه إلى نهاية القرن السابع عشر الميلادي، حسبما يرد لدى المؤرخ اللاذقي الياس صالح، في محفوظة "آثار الحقب في لاذقية العرب".

يقع المتحف في بناء تراثي جميل يتوسط الجهة الغربية من المدينة بالقرب من الميناء التجاري، مجاوراً لشاطئ البحر الذي يفصله عنه حديقة عامة تدعى "المنشية"، وكان في الأصل خاناً، تبلغ مساحته 2750 م2، تحيط به حديقة واسعة مساحتها أكثر من هكتار.

تتألف أقسام المتحف من الطابق الأرضي الذي يتوسطه فناء مكشوف تطل عليه وتحيط به من كل الجهات أروقة محمولة على دعائم حجرية، الرواق الجنوبي تتصدره ست قاعات على صف واحد، القاعتين الأولى والثانية سقوفها عقود متصالبة، أما الثالثة وحتى السادسة سقوفها عبارة عن قبو سريري، وعند بداية الرواق من الجهة الغربية إلى الشمال يوجد مدخل صغير يفضي إلى درج حجري يؤدي إلى سطح البناء، أما الرواق الشرقي فهو عبارة عن صف واحد من الدعائم الحجرية التي تحمل السقف والرواق الغربي المقابل تشكله صفان من الدعائم الحجرية، أما الطابق الثاني فقد شيد عام 1904 م فوق الزاوية الجنوبية الغربية من سطح الطابق الأرضي ويتألف من بهو أو صالة تتوزع حولها الغرف والقاعات الكبيرة ذات السقوف الخشبية والتزيينات الجميلة.

أما عن استخدامات البناء فقد تغيرت وظائفه عبر تاريخه الطويل حيث كان في الأصل خان "فندق" ثم استخدم كمستودعات لتخزين التبوغ، وفي القرن التاسع عشر اشترى البناء إبراهيم نصري وهو أحد وجهاء اللاذقية عام 1904م، وفي الزاوية الغربية منه منزلاً أنيقاً لسكنه الشخصي ومن ثم استخدمته السلطات التركية مقراً للحاكم التركي الذي كان يحكم اللاذقية أثناء فترة الاستعمار التركي، وإثر الاحتلال الفرنسي لسورية عام 1919م اشترى الفرنسيون المنزل وجعلوا منه مقراً لإقامة الحاكم الفرنسي لِما سمي دولة اللاذقية المستقلة، وأطلق على الموقع حينها المندوبية كونه مقراً للمندوب السامي الفرنسي، ثم غادر الموقع ممثل فرنسا في الخامس من تموز عام 1945م، بعدها اشترت البلدية البناء عام 1978م وفي عام 1981م تحولت ملكيته إلى المديرية العامة للآثار والمتاحف وقامت بأعمال ترميم وصيانة للطابق الأرضي ثم حولتهُ ليكون متحفاً وطنياً لمدينة اللاذقية، حيث تم افتتاحه في 19 نيسان 1986م أما الطابق الأول فهو الآن مقراً لمديرية الآثار في اللاذقية.

قاعات المتحف

الأولى: قاعة آثار الشرق القديم.

الثانية: آثار موقع إبن هاني الأثري المعاصر لمدينة أوغاريت.

الثالثة: الآثار الكلاسيكية "يوناني، روماني، بيزنطي".

الرابعة: الآثار الإسلامية.

الخامسة: الفن الحديث.

السادسة: خصصت مستودعاً لحفظ وأرشفة الآثار المكتشفة في محافظة اللاذقية.

وفي تصريح خاص لمركز الدولي للإعلام في العراق، تحدثت المختصة في الآثار والمتاحف، عفراء خيربيك، عن أهمية المتحف الوطني في اللاذقية بقولها:

"تأتي أهمية المتحف الوطني في اللاذقية كأي متحف وطني في سورية من خلال مقتنياته التي تحمل شرحاً وافياً عن تاريخ مدينة اللاذقية العتيقة العريقة مدينة السلام والمحبة، وتحتوي قاعاته الخمس على أهم المكتشفات الأثرية في المحافظة، بدءاً من اللقى التي تعود لفترة ما قبل التاريخ، وهي القاعة الاولى إلى فترة الشرق القديم التي تمثلها آثار أوغاريت وابن هاني وهي القاعة الثانية إلى الفترة الكلاسيكية الغزيرة الآثار واللقى في محافظة  اللاذقية وهي القاعة الثالثة وصولاً للقاعة الرابعة التي تعود آثارها للفترة الاسلامية، وما يعود إليها من آثار ولقى هامة، والقاعة الخامسة والأخيرة هي قاعة الفنون الحديثة من لوحات ونحوت لفنانين معروفين بالمحافظة، فضلاً عن الحديقة الغنية التي تنشر في أرجائها العديد والخليط من الآثار التي تعود  لكل هذا التاريخ العريق".

تتمتع الواجهة الخضراء للمتحف برائحة بحرية عبقة، ويعتبرها السكان المحيطين في المنطقة منظرا جميلا يزيد من أناقة المكان إضافة الى أنها مصدر لتنقية الهواء، ويوجد فيها آثار حجرية ورخامية تعود للعصر الكلاسيكي والإسلامي، هذه الآثار قوامها تماثيل حجرية لأشخاص وشواهد وأنصاب تذكارية ونذرية تعلوها كتابات بلغات قديمة، ومجموعة من التيجان والأعمدة والقواعد والأطناف، وهي بدورها تشكل أجزاء من النسيج العمراني القديم للمدينة، كما أنها أقرب ما تكون متحف في الهواء الطلق.

وخلال عام 2016 أقامت منفّذية الحزب السوري القومي الاجتماعي في المتحف الوطني باللاذقية فعاليات مهرجان الربيع الثقافي الثاني احتفالا برأس السنة السورية 6766 الذي يأتي في الأول من نيسان من كل عام، وتضمن المهرجان فعاليات فنية وثقافية ومعرضا للكتاب ومعرضا للفنون التشكيلية الى جانب مشاركة عدة جهات اهلية بمنتجات أعضائها ومشغولاتهم اليدوية كرابطة ابناء وبنات الشهداء، وجمعية التوحد في اللاذقية، وكان حفل الافتتاح الذي تضمن فقرات فنية ورياضية بمثابة اعلان رسمي عن بدء فعاليات المهرجان.

إضافة للآثار الموجودة فيه تسلّمَ المتحف الوطني في اللاذقية عام 2021 ضمن إطار الجهود الوطنية التي تقوم بها الجهات المختصة لمكافحة جريمة الاتجار غير المشروع بالآثار السورية "36" قطعة أثرية نقدية ذهبية تؤرخ لحضارات تعاقبت وازدهرت على الأرض السورية وأسهمت بإغناء الثقافة الإنسانية، حينها أكد مدير عام الآثار والمتاحف نظير عوض في تصريح له أن القطع النقدية التي تم تسليمها إلى المتحف الوطني باللاذقية مهمة جداً والبعض منها قد يكون نادراً وتؤرخ لحضارات من الرومانية والبيزنطية والإسلامية لافتاً إلى أنه تم ضبطها في محافظة اللاذقية حيث كانت معدة للتهريب خارج البلاد.

فعاليات يحتضنها المتحف

كما احتضن المتحف الوطني باللاذقية على مدى يومين حضارات وثقافات لأكثر من 22 بلدا حول العالم، ضمن فعالية كرنفال "مشوار ع العالم 2021" التي أقامتها الغرفة الفنية الدولية - اللاذقية بالتعاون مع مديريتي الثقافة والآثار والمتاحف بالمحافظة، وبينت داليا سليمان رئيس مجلس إدارة الغرفة خلال تصريح لها أن الكرنفال يهدف إلى تعزيز قيم السلام من خلال التعريف بتراث الشعوب وهويتها الحضارية والثقافية وبقدرات الشباب السوري المبدع والمتميز، والكرنفال وفقا لسليمان جزء من الحملة العالمية التي تقيمها الغرفة الدولية تحت عنوان "آمن بسورية" للتأكيد على أهمية هذه الأرض التي منحت العالم أول أبجدية ونوتة موسيقية وقدرتها على جمع الحضارات والثقافات من مختلف بقاع الأرض للتعريف بها والإضاءة على غناها الثقافي والحضاري.

أيضاً أُقيم بالمتحف الوطني في اللاذقية مجموعة نشاطات ثقافية، بالتالي إن المتحف ليس فقط مجموعة آثار تجمعت في صرح تاريخي، بل إنه أيضاً مجموعة فكر وإنسانية متوارثين عبر الأجيال المتعاقبة في المكان، إضافة الى أنه يرمز إلى بقاء الحضارات رغم الزمن والاحتلالات إلا إن هوية المكان واحدة، عربية سورية، وتملك آثارها التي تثبت للعالم أجمع أن هنا حضارة وعلم وثقافة.

ونوّه لمركز الاعلام الدولي في العراق، أحد الزائرين للمتحف، مجد عباس بقوله" الحديث عن المتحف الوطني في اللاذقية لا يغني المرء عن زيارته، سيما أنه يقع في محافظة اللاذقية السياحية التي يعانقها البحر بمحبة أبدية، للوهلة الأولى أمام المتحف تشعر أنك قريبا سترى ثقافات تتحدث بعدة لغات متعاقبة، أو أنك سترى أساطير لم تعرفها إلا في الحكايات، وكلما شاهدت المزيد من أروقته وآثاره سيزداد شعورك هذا، سيما عندما ترى التماثيل والصخور التي تحولت إلى مناظر أثرية فنية، تعبر عن رقي الحضارات الانسانية التي وشمتها على كتف التاريخ، والحديقة المحيطة به تمنحك شعوراً بالرضا لمجرد أن أحداقك ترى الطبيعة الخضراء كيف تحاول محاكاة الزمن، كأنها تقول أنها البيئة الجميلة التي ألهمت من مرَّ بها بالفن والجمال".