الحسين عليه السلام وارث الانبياء

السيد صالح الحكيم

استهدفت حركة الانبياء عليهم على مدى تاريخهم المستوعب للاجتماع البشري لإحقاق الحق وارساء دعائم العدالة الاجتماعية، لذلك اصطدمت بالارادات التي تتحسس من النهج القويم وتشعر ان ذلك المنهج يتعارض مع مصالحهم ويهدد كياناتهم فتبدأ قوى الاستكبار بالعمل بالضد من حركة الانبياء الاصلاحية.

وفي المواجهة مع الطاغوت قدّم الانبياء عليهم السلام وأتباعهم التضحيات الجسام لتحقيق امر الله الذي اراد للبشرية ان تنعم بالعدل والانصاف.

يقول الحق سبحانه "ان الله يامر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تتذكرون".

وهذا المنطق الرسالي عمل به الانبياء من ادم الى الخاتم  سلام الله عليهم اجمعين.

وفي الرسالة المحمدية واجه رسول الله صلى الله عليه وآله منذ اليوم الاول لرسالته خط الطاغوت وثبتَ وصبرَ والخُلّص من اتباعه حتى وافاه الاجل، وبعد رحيله بدا الخط المائل يرسم للحكم حتى استطاع ان يتقمص امامة المسلمين واقصي عنها خليفة رسول الله علي ابن ابي طالب عليه السلام، ثم تصاعدت الاحداث حتى وصل الامر الى ان يبايَع يزيد بن معاوية كخليفة لرسول الله صلى الله عليه واله.

ومنذ الوهلة الاولى للانحراف سجّل اصحاب الكساء عليهم السلام اعتراضهم لما جرى في السقيفة ولكل ما من شانه تزييف الحقائق، فقد بين امير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام خطورة ماحدث  وما سوف يحدث بمواقفه وكلماته.

ووقفت بضعة رسول الله فاطمة الزهراء عليها السلام لتثبت في خطبتها الحقائق، وتبين مكامن الخطر وعظيم الانحراف وتحملت هي وعلي واهل بيت النبوة عظيم المصائب، وصبروا ولم يقاتلوا لاسترداد حقوقهم درءا للفتنة وصيانة للامة وفي خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام تسمى الخطبة الشقشقية بيّن  فيها ماحصل وموقفه من الاحداث حيث يقول فيها :

"وطفقتُ ارتأي بين ان اصول بيد جذاء او اصبر على طخية عمياء (الظلمة الشديدة) يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرايت الصبر على هاتا احجى فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى ارى تراثي نهبا ."

وبعده بويع ابنه الاكبر رابع اصحاب الكساء الامام الحسن المجتبى عليه السلام بالخلافة وقد اتسعت رقعة الانحراف وتمرد معاوية بن ابي سفيان واعلن من موقعه في دمشق انه خليفة رسول الله فوقف الامام الحسن عليه السلام بوجهه وخرج لحرب الفئة الظالّة .

وحين وجد ان الحرب سوف تضعضع اركان دين جده وتتعارض مع المصالح العليا للمجتمع الاسلامي عقد مع معاوية صلحاً تضمن خمسة بنود نذكرها بشكل موجز:

١- يستلم معاوية الخلافة على ان يعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه.

٢-تعود الخلافة بعد معاوية الى الامام الحسن عليه السلام وإن حدث للامام الحسن حدث فتكون لأخيه الامام الحسين عليه السلام ولا يحق لمعاوية ان يعهد بها الى غيره.

٣- ان يترك معاوية سَب امير المؤمنين علي عليه السلام وان لا يذكر علياً إلا بالخير.

٤-يستثنى ما في البيت من اموال تبقى للامام الحسن عليه السلام ويثبت لأولاد علي الذين قتلوا في واقعة الجمل وصفين سهم من بيت المال.

٥-يجب ان يأمن الناس حيث كانوا في ارض الله الاسود والاحمر وان لايتتبع احداً بما مضى ويوصل الى كل ذي حق حقه. وأن لاينال احداً من شيعة علي بمكروه .

فوافق معاوية عليها ومضاها وأشهد عليها رؤساء الشام، ثم انقلب معاوية على المعاهدة المذكورة ولم يلتزم بأي من بنودها. وأوصى بالخلافة الى ولده يزيد من بعده. واخذ البيعة له خلافاً لما تعهد به في صلحه مع الامام الحسن عليه السلام ولما مات معاوية وتصدى الامام الحسين عليه السلام خامس اصحاب الكساء وهو آخرهم . طلب منه مبايعة يزيد فقال عليه السلام: "مثلي لايبايع مثله" وخرج من المدينة المنورة قاصداً مكة المشرفة، ليعلن من هناك وفي موسم الحج أمام حجاج بيت الله الحرام موقفه الرافض لخلافة يزيد قائلا :

"اني لم اخرج اشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي  اريد ان امر بالمعروف فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق ومن رد علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين. ومنها تحرك نحو العراق لانه قد استلم المئات من الرسائل تطلب منه ان يقدم الى العراق ليبايعوه خليفة لرسول الله ص وهكذا وصل ذبحة الرب الى شاطيء الفرات كما سمي في الانجيل.

وحدّث رسول الله صلى الله عليه واله عن جبرائل ان امتك ستفتن بعدك وتقتل ولدك هذا واشار الى الحسين ع في ارض يقال لها كربلاء وجاء له بتربة من تلك الارض.

وجرت تلك الماساة التي حولت وجه التاريخ ودقت اسفين الهلاك في مُلك بني امية.

وثبت الحسين عليه السلام بدمه الطاهر ودماء اهل بيته واصحابه ركائز الحق وبين معالم مدرسة السماء وقيم الانسانية  فهو بحق وارث الانبياء.

ونحن بعد 1400 سنة حين ننظر الى ماحققه الحسين عليه السلام بنهضته التي خلدها الله سبحانه نجد معالم ارث مشرق يتجدد مع مرور الايام ومشعل هداية لاينفد  معينه ولا تنقضي عجائب ابداعاته فقد حققت النهضة الحسينية اهدافا كبرى منها :

١- تصحيح المسار الديني بعد ان اخذته الخلافة الضالة الى منعطف يبتعد فيه عن رسالة السماء حيث اسقطت النهضة الحسينية مشروعية الخلافة المدعات انها لرسول الله وبينت انها مُلك عضوض.

وان الحكم باسم السماء لايشرع الا لنبي مرسل او من يكلفه النبي بذلك وبغير هذه الصورة فالتجربة لا تعدوا ان تكون تجربة بشرية لايمكن ان نضفي عليها قداسة السماء.

٢- فتح الحسين ع بابا لمدرسة فكرية تبناها الائمة من اهل البيت بعده وكان من غير الممكن ان ينتشر الفكر الامامي لولا ما اكسته عليه ظلامات كربلاء من عواطف تلقتها النفوس الطاهرة من مختلف اصقاع الارض ولولا تلك التضحيات لتمكن الطاغوت من عزل اهل البيت ع في زاوية محددة لا يعرفها الا الخواص من المؤمنين ولرجع عموم الناس لعلماء السلطان ياخذون منهم معالم دينهم.

٣- فتحت واقعة الطف قلوب الناس بعد عقولهم وتلقوا الفاجعة الاليمة بعواطف جياشة حفظ من خلالها الفكر الاصيل فالافكار تحفظ في بطون الكتب ومع الضد النوعي بالتدريج تشوه الافكار بالدعاية الكاذبة وبالتزوير وان الناس في الغالب على دين ملوكهم.

ولكن الشعائر الحسينية شكلت صرحاً يلهب حماس الملايين ويعيد الذكرى حية منتصبة تتحدى النسيان، فالعاطفة هي الحاضنة الممتازة للفكر اذا تمكن قادة الفكر ان يطلوا على الناس من نافذتها، ولذلك اصر اهل البيت عليهم السلام الى تحويل الشعائر الحسينية الى مباديء يتقرب بها المؤمنون الى الله عز وجل وذلك بأمر من الله تعالى الذي شاءت حكمته ان يُعز الحسين ويجعل الشعائر الحسينية هي باب واسعة من ابواب التقوى والصلاح وتركيز القيم الانسانية في النفوس.

وبذلك عمل القادة المعصومون عليهم السلام ومعهم اتباعهم لتتحول عاشوراء الحسين ع الى مناهج في الفكر والمعرفة والادب والشعر والتصوير والابداع في الفنون والاداب والكرم والبذل والعطاء الانساني الرفيع واستطاعت تلك الثقافة الرفيعة ان تجمع الملايين من الناس على اختلاف مشاربهم وتفجر في دواخلهم كوامن الخير وترسم لهم مسارات القيم والاخلاق الحسنة والفضيلة بمختلف ألوانها.

واستطاعت تلك الشعائر الحسينية ان تمنح الملايين من الناس طاقات ايجابية عالية وتمنح مجتمعاتهم مواسم تدريب عملي لاصلاح السلوك المجتمعي.

هذا النجاح الباهر الذي اسس له الحسين عليه السلام بدمه الطاهر الذي قدمه لله فوهبه الله الخلود، وإلا فكيف تفسر ما يجري الان وبعد اربعة عشر قرنا من الزمان ولا تزال الملايين من الناس تتزاحم على الزحف نحو قبر الحسين عليه السلام، لا وصف لما يحدث إلا ان نقول:

تلك العظام أعز ربكَ قدرها

فتكاد لولا خوف ربك تعبد

ابداً تباركها الوفود يحثّها

من كل حدبٍ شوقها المتوقد