شيء في "الإنتظار" و "الخاتمة" من كربلاء

د. علي المحجوب

الصورة: قاسم العميدي
 

ثمّة صنفان -على الأقل- من الإنتظار للإمام في كربلاء وصنفان من العاقبة في كلّ الأحوال.

فإنّه كان قوم ينتظرون الإمام لينصروه حتى إذا وافاهم -عليه السّلام- أعرضوا عن نصرته، وهؤلاء غير القوم الذين بقوا على نصرته غير أنّهم مُنِعُوا من ذلك فلم يكونوا يستطيعون إليه -عليه السلام- سبيلا. وقوم انتظروه ليقاتلوه، فكان لهم ما أرادوا. وما ظلم الله أيّا من الفريقين ولكنْ كانوا أنفسهم يظلمون، وعاقبتها واحدة أو يكاد. فإنّ الخذلان شرٌّ مطلق ولو قد يسمّيه بعضهم "حيادا" ظنّا منه أنّه إنّما يلطّف بذلك العبارة، فإنّ الذين اعتزلوا القتال يومها قوم قد "خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل"، كذلك علّمنا المولى أمير المؤمنين عليه السّلام في سعد بن أبي وقّاص وآخرين في زمانه، وهو الحال في الأقوام الذين خرجوا مع عمر بن سعد بن أبي وقّاص ومن لم يخرج معه إلى قتال الحسين بن علي عليهما السلام.

أمّا هاتان الأمّتان من النّاس الذين خذلوا الحقّ فلا يهمّ فيهما العدد فإنّ الألف منهم كلا شيء.

ولكنّ أمّتين من غيرهما قد كانتا في رجُلين اثنين: أمّا الأوّل فالحرّ الرّياحي، رجل انتظرَ الحسينَ ليُجعْجِع به ويقاتله، وقد شرع في ذلك لولا أن تداركه لطفٌ من ربّه فانتهى شهيدا بين يدي الإمام، فكان انتظارُه شرًّا وكانت عاقبته خيرًا. ولم يكن الذي من الله لطفَ جبرٍ وإنّما هو لطف توفيق. وقد خيّر الرّجل نفسه بين الجنّة والنّار فلم يختر على الجنّة شيئا. وكان الرّجل وجيها في قومه، مُعرّفا مشهورا عند أهل الأرض وأهل السّماء. ورغم أنّ ظاهر الأمر كان يَشِي بحتميّة مقتل الحسين عليه السّلام ومن معه، أو أسرهم، فإنّه لا يُحتملُ أنّالحرّ الرّياحي كان يستثني من حساباته إحتمال أن تنقلب أمّة كثيرة من جيش ابن زياد مع الحسين عليه السلام، كما قد فعل الحرّ نفسه، وهو قائدهم. فإذا كان ذلك -عنده- محتملا لزِمَهُ بالمِثل أن يحتمل الغلبة للحسين وأصحابه.

وأمّا الذي كان انتظاره خيرًا وعاقبته كذلك فرَجل من "بني أسد" قد سمع منذ زمن أنّ الحسين بن عليّ يُقتل في كربلاء على طفِّ الفرات، فسكن الرّجل هناك مرابطا ثابتا لا يتزحزح منتظرا نصرة إمامه رغم علمه أنّ الحسين مقتول لا محالة. وكان يمرّ على الأسديّ قوم فيسألونه أنْ "فيما سكناك هاهنا؟" فيخبرهم بأنّ الحسين مقتولٌ بهذه الأرض وأنّه ينتظره لينصره. ثمّ إنّ هؤلاء القوم طلبوه بعد ظهر عاشوراء فوجدوه شهيدا في معسكر الحسين عليه السّلام، ولولا أنّ القوم قد قصّوا من خبره ما قد قصّوا ما كان ليصلنا ذكره. أمّا هذا الرّجل فقد كان مجهولا عند عامّة أهل الأرض، معروفا عند أهل السّماء. ولم يكن الرّجل يُخيّر نفسه بين جنّة ونار -كما قد فعل الحرّ- ولا تحدّث عنهما ولا دخل في حسابات الثّواب والعقاب. ثمّ، ما كان يمنع الأسديّ  من أن يلج إلى مدينة قريبة من ذلك الصّعيد فيشتغل في طلب دنياه وهو ينتظر الحسين؟ فإنّ الشّارع لم يمنعه من ذلك ولا قد كرِهَهُ له. لكنّه الشّوق الذي يأخذ بلبِّ المحبّ حتّى يصير المرءُ مستوحشا ممّا استأنس به النّاس، مستئنسا بما استوحشوا منه.

فاللهَ نسأل أن نكون من المنتظرين لإمامهم الذين لا ينكصون بعد حين على أعقابهم. وليكن في كلّ منتظر منّا كثير من إرادة الرّياحي في حساب أمور العاقبة، ولعلّ شيئا من حبّ الأسديّ لإمامه يكون محسّنا للخاتمة، فإن كان حبّا يُقاربُ حبّه -رضوان الله عليه- رجونا أن نكون على كثير من الخير.

ولنعلم أنّ جهلنا وأهلَ الأرض بأحدٍ من النّاس لا يمنعه من أن يبلغ مبلغ الفتح، ذلك أنّ جهل من في الأرض لذلك الرّجل "الأسدي" لم يمنعه من أن يبلغ ما لعلّه يكون أحسن ممّا قد بلغه الحرّ الرّياحي على معرفة أهل الأرض له، وفي كلّ منهما خير، وأيّ خير.

اللهمّ أحسن خاتمتنا في الأمور كلّها.