المرجعية الدينية العليا ومراقبة العملية السياسية

يرى المراقبون والمختصون ان دور المرجعية الدينية العليا ازاء العملية السياسية بعد التغيير الذي طرأ عام 2003 كان دورا مفصليا, ويذهبون الى ان فهم هذا الدور يتطلب استقراء دقيق ومتابعة متواصلة لتحركات المرجعية وما يصدر عنها من بيانات وخطب متتابعة ومتكاملة تقوّم الاداء السياسي وتؤشر مكامن الخلل منذ انطلاق العملية السياسية في البلد، ولاستقراء هذا الدور ومعرفة المكتسبات المتحققة بفعل دور المرجعية الدينية التقت مجلة الروضة الحسينية بالمختصين والمراقبين.

توضيح رؤية الإسلام تجاه الامور السياسية وتشخيص الاخطاء وطرح البدائل

ولفهم طبيعة تعاطي المرجعية مع الاداء السياسي والمرتكزات التي تستند اليها في هذا التعاطي ذكر الشيخ عماد الاسدي من  قسم الشؤون الدينية في العتبة الحسينية المقدسة ان "من الاخطاء الشائعة التي يتم تداولها على لسان البعض بأن المرجعية لا شأن لها في الشؤون السياسية ولا تتدخل، وهذا الكلام له ابعاد ودلالات خطيرة والغاية منه هو التنصل من المسؤولية الشرعية والاخلاقية بل وحتى المسؤولية الدستورية لبعض السياسيين تجاه الوظيفة الملقاة على عاتقهم حتى يفعلوا ما يحلوا لهم، متابعا حديثه "نحن كمجتمع إسلامي ننطلق من المنطلقات الإسلامية التي تنظر الى المرجعية بانها العين الناظرة في البلاد والعباد وتؤدي وظيفة النيابة العامة عن المعصوم ونعني بالإمام المعصوم، الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)  لكون ان ديننا دين متكامل فيه الجنبة السياسية بالإضافة الى الجنبة العبادية ولذلك نحن نقرأ في الزيارة الجامعة ما ورد عن أمتنا عليهم السلام (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَوْضِعَ الرِّسَالَةِ وَمُخْتَلَفَ الْمَلَائِكَةِ وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ وَمَعْدِنَ الرَّحْمَةِ وَخُزَّانَ الْعِلْمِ وَمُنْتَهَى الْحِلْمِ وَأُصُولَ الْكَرَمِ وَقَادَةَ الْأُمَمِ وَأَوْلِيَاءَ النِّعَمِ وَعَنَاصِرَ الْأَبْرَارِ وَدَعَائِمَ الْأَخْيَارِ وَسَاسَةَ الْعِبَادِ) لاحظ اللفظ ساسة العباد اي أئمتنا (عليهم السلام) هم ساسة العباد، ولكن اي سياسة ينتهجها أهل البيت (عليهم السلام)، هي التي يتبناها والتي يدافع عنها ويدعو اليها المرجع الاعلى، هي السياسة القائمة على بناء الذات الإنسانية وتحقيق  العبودية فيها وتجعل الإنسان عبدا مطيعا لله سبحانه وتعالى".

وأضاف ان "سياسة الأئمة هي السياسة الممدوحة التي اسسها وعمل على ترسيخها رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تجعل من الإنسان صالح لا يظلم ولا يفسد ولا يفجر ولا يستأثر بالمال والمناصب ولا ينحاز لقبيلته او لكتلته او فئته او حزبه, فمن هنا نجد ان المرجعية تأكد على هذه المطالب من خلال خطبتها الثانية  من صلاة الجمعة ومن خلال ارشاداتها واجاباتها عن الاسئلة التي توجه اليها من قبل مقلديها وغير مقلديها وبل استقبالها الكثير من المسؤولين المحليين والدوليين وهي وان كانت قد اغلقت ابوابها امام السياسيين المحليين لتعبر عن غضبها وعدم رضاها بل ولتعبر عن عدم أهليتهم لتمثيل الشعب، الا انه لا ينبغي ان نقول ان المرجعية لا تتدخل في الامور السياسية، وهذا خطأ شائع كما ذكرنا يجب ان نتصدى له, ومن يدعي هذا الادعاء عليه ان يأتي بخطبة من صلاة الجمعة التي تبث الموقف الشرعي والاخلاقي للمرجعية تجاه التطورات في العراق".

وأكمل الاسدي حديثه "ملخص الكلام المرجعية لها دور كبير في تشخيص الاخطاء وطرح البدائل ووضع النقاط على الحروف وهي توضح رؤيتها ورؤية الاسلام تجاه الامور السياسية من خلال خطب صلاة الجمعة ومن خلال ما تتلقاه او ما تلتقي به من وفود او من خلال البيانات التي تطرحها او من خلال الاجابات التي تجيبها على الاسئلة التي ترد اليها من بعض مقلديها وهذا من مصاديق تدخل المرجعية في الامور السياسية, نعم، المرجعية لا تتدخل في الجزئيات ولا تعزل او تنصب ولكنها تراقب وتقوّم حفظا للمصلحة العامة".

السعة والشمولية في كل ما يرتبط بتنظيم الشؤون الاجتماعية و المصيرية للامة

وبصدد المهام التي تقع على عاتق المرجعية الدينية تجاه المجتمع والدولة تحدث الأستاذ في الحوزة العلمية في النجف الاشرف الشيخ مشرق الكريعاوي قائلا "منذ غيبة صاحب الامر (عج) المرجعية الدينية و علماء مدرسة أهل البيت (ع) يتسنمون المسؤولية الجسيمة و المهام الخطيرة المتجسدة بحفظ اركان الدين و أحكام شريعة سيد المرسلين وآله الهداة المعصومين، ولم يقتصر دور المرجعية على ذلك فحسب بل ان لسلطة العلماء العدول السعة والشمولية في كل ما يرتبط بإدارة و رعاية ورقابة و تنمية و تنظيم الشؤون الاجتماعية و المصيرية للامة, ولا يخفى اهمية و ضرورة دور المرجعية العليا في الشأن السياسي و ما يترشح عنه من مواقف و تحولات محلية أو إقليمية أو حتى في القضايا ذات الأبعاد الدولية و الاستراتيجية لذا يمكن تلخيص أهم الامور التي تتعلق بالدور المرجعي فيما يرتبط بالقضايا السياسية بما يلي:

١- ترشيد و تصويب العمل السياسي.

٢- المحاولة الجادة للوصول إلى النضج السياسي على مستوى النظام و الافراد والمجتمع .

٣- ممارسة الدور الرقابي و النظر الفاحص لمجريات الأحداث و التغيرات الناجمة عنها.

٤- الرعاية الابوية و الشرعية لكل أفراد الأمة بما فيهم الأفراد والممارسين للأعمال و الأنشطة السياسية.

٥- رصد الأخطاء و تصحيح المسارات ومراقبة الاعوجاج الذي يصيب النظام السياسي و العاملين فيه نتيجة الاغراء و الفساد أو الفتن أو التآمر الداخلي والخارجي .

٦- متابعة و استقناص الأعمال والخطط التخريبية  و الفتنوية التي تهدف الى انهيار النظام الاجتماعي و تعطيل عجلة الإصلاح الحقيقي- وليس الزائف- فإن الدور المرجعي الاعلى هو خير ملجأ في البلايا و النوائب والفتن.. .

٧- السعي لإعداد البدائل الموضوعية التي تشتمل على تصحيح المسارات السلوكية للنظام السياسي وبكافة سلطاته التي تتوزع عليها مهام إدارة شؤون الدولة والمجتمع .

٨- تأكيد المرجعية العليا في رعايتها على ان تشمل كافة افراد الاسرة الإنسانية  و الهيئة الاجتماعية بغض النظر عن الدين والطائفة و المذهب و العرق والقومية لان الحد الوحيد و الأصيل في رؤية المرجعية الدينية هو الإنسانية وكرامتها.

طلب النصح دون التزام تسبب في غلق المرجعية ابوابها

فيما قال أمين عام مؤسسة آشور للتنمية وحقوق الإنسان هادي حسن شويخ ان "المرجعية المتمثلة  في  السيد علي الحسيني السيستاني(دام ظله الوارف)كانت ومازالت تمثل اروع صور العطاء الذي لا ينضب نصحا وإرشادا  قبل ٢٠٠٣ وبعدها وفي كل الأوقات, وهي تؤشر وتحدد مكامن الضعف والسلبيات في المجتمع وفي كل الأمور,  ولكن بعد عام ٢٠٠٣ ازداد الضغوطات على المرجعية وبشكل اكبر من ذي قبل, وأصبح الباب مفتوح لكل من شارك في العملية السياسية يطلب النصح والارشاد من دون التزام حقيقي للنصح وهو الذي تسبب في غلق المرجعية العليا لأبوابها بوجهم جميعا من دون أي استثناء, وكان هذا واضحا للكل".

المرجعية الدينية أشرت على الأخطاء المتراكمة ووجهت للعمل لصالح الشعب

ويرى الكاتب والمحلل السياسي والأمني الاستاذ أثير الشرع ان "المرجعية الدينية شخصت مواطن الخلل خلال الحكومات المتعاقبة ووجهت جميع السياسيين للعمل لصالح عامة الشعب ونبذ المحاصصة والخلافات التي أدت إلى خلق فوضى وضعف إداري خطير وسع الفجوة بين السلطة والجماهير".

ويضيف ان "المرجعية الدينية أشرت على العديد من الأخطاء المتراكمة ووجهت برفضها استقبال أي مسؤول تنفيذي ورقابي قبل إصلاح الخلل والأخطاء التي شخصتها ورغم المضي بإصلاح الأخطاء التي شخصتها المرجعية ومنها تحديد موعد لانتخابات مبكرة وتعديل قانون الانتخابات إلا أن المرجعية مازالت ترفض استقبال أي شخصية سياسية وأرسلت رسائل الى المواطنين كافة بأهمية المشاركة في الانتخابات والدفاع عن حقوقهم والوقوف بوجه المارقين والمنفلتين وهذه التوجيهات ستؤدي في نهاية المطاف الى تعديل الانحرافات وتصحيح الأخطاء في العملية السياسية وهنا نستطيع التأكيد على دور المرجعية السياسي الإصلاحي خصوصاً بعد رفضها كافة أنواع التدخلات الخارجية الأجنبية في الشأن الداخلي".

 تشخيص الخلل منذ الساعات الاولى لنشأة العملية السياسية

وعن مراقبة المرجعية الدينية للعملية السياسية منذ نشأتها يذكر مدير مركز قراءات للإعلام والتنمية الاستاذ مفيد السعيدي  ان "للمرجعية دور رئيسي بتشخيص الخلل بالعملية السياسية عبر منابر الجمعة ولم تترك صغيرة وكبيرة الا وأشرت عليها لكي تنبه اصحاب القرار من تقويم عملهم وتفادي الغفلة وذلك منذ الساعات الاولى لنشأة العملية السياسية إذ كانت تصحح المسار من خلال تأكيدها على كتابة الدستور الدائم، تخيل عملية سياسية دون دستور بالتأكيد تسير بطريقة انفرادية واهواء وامزجة، مستطردا في حديثه عن دور المرجعية "تأكيدها على النظام الانتخابي والتداول السلمي للسلطة ثم حث الناس على الانتخابات ووثوقهم بالعملية السياسية التي لبنتها الاساس المواطن فهي شكلت مركب أمان للعراقيين، حتى غلقها الابواب بوجه الساسة كان مؤشر ايجابي لتقويم العملية السياسية واخذت توصي وتؤشر مكامن الخلل جمعة بعد جمعة وكانت ترسم مسارا اسبوعيا وتعطي الحل لكل خلل حتى وصلنا الى الانعطافة التاريخية الثانية بحياة العملية الديمقراطية".

ويمضي السعيدي في حديثه قائلا " الانعطافة الاولى في العميلة السياسية كما ذكرنا تمثلت في تثبيت اركان الدولة الحديثة من الحث على كتابة الدستور واجراء الانتخابات البرلمانية اما الانعطافة الثانية التي تجلت فيها حكمة المرجعية ودورها المحوري فهي بيان الدفاع الكفائي الذي من خلاله تمكنا من دحر اعتى عصابة وفكر تكفيري وجدته البشرية و في الخطب اللاحقة بعد البيان المبارك اشارت الى توثيق كل عمليات التحرير ومحاربة داعش هنا يتبين البعد الاستراتيجي للمرجعية واهتمامها بالحرب الناعمة".

وختم قائلا "لا نغادر الحديث دون ان نتعرض الى المرحلة الثالثة المهمة والمفصلية وهي دعم المطالب الحقة والمشروعة للمتظاهرين وهنا كنت من المتابعين بشغف لمنبر الجمعة وتحليله ولو كانت هناك آذان تسمع وأقلام شجاعة و رجال دولة لما وصل الحال الى ما وصل اليه اليوم كما ان للمرجعية الرشيدة خطب وبيانات اخذت طريقها في الإعلام وفي مواقع التواصل على شكل هاشتاجات او مانشيتات لازالت ترن بآذان العامة منها (المجرب لا يجرب) و (بحت اصواتنا) ثم (اعلان فتوى الجهاد الكفائي) و(اعلان بيان النصر) و بيانات وخطب التظاهرات و(بيان الحذر والتأبين بحق حادثة المطار) وصولا الى استقبال البابا وما تمخضت عنه الزيارة ولربما ما ذكرته النزر اليسير من تاريخ حديث لتعديل انحراف مسارات العملية السياسية حتى الصمت الحالي هو تعديل وتشخيص لانحراف سنوات مضت وانا ارى هناك مشروع يلوح بالأفق ربما يكون بديل لسنوات خلت".

للمرجعية سلطة روحية ولا تمارس الاجبار والإكراه

وفي مقال منشور في عدة وكالات للكاتب عبد الكاظم  حسن الجابري تعنون بـ لا تُحَمِّلُوا المرجعية ما لا تعلمون يذهب الكاتب الى ان  "المرجعية دأبت على ضبط إيقاع المجتمع, من خلال ما توجهه من رسائل وارشادات, سواء أ كان عن طريق منبر الجمعة في كربلاء, أم من خلال بيناتها الصادرة, والتي تنشر في الموقع الالكتروني لمكتب السيد السيستاني, أو ما تجيب عنه من أسئلة تقدم إليها.

ويتابع "تمارس المرجعية دورها من خلال ما تملكه من سلطة روحية -إن صح التعبير- لا من خلال سلطة حكومية أو سلطة سياسية أو ما شابهه من سلطات وعادة تخاطب المرجعية اتباعها وغير اتباعها -وكذلك السياسيين وغير السياسيين- من خلال النصح والارشاد لحفظ النظام العام, والحفاظ على تماسك المجتمع, ولا تمارسه بنحو الاجبار والإكراه".

ويضيف الجابري "المرجعية ترى أن من واجبها بحكم منزلتها الدينية أن تقدم النصح تارة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتارة من باب الناصح الشفيق الذي يريد الخير للآخرين وكلام المرجعية عادة عبارة عن وحدة متماسكة, ومتصل بما قبله –وان تباعد الزمن- ومتصل بما بعده, فهي تضع مسطرة القياس وفق الصالح العام, ضمن منهجية مدروسة بعناية ودقة, بعيدة عن الأنا والمصالح الشخصية, فهي –المرجعية إذ تمارس هذا الدور تمارسه على نحو العطف والعون, لا على نحو الحصول على المكاسب, فالمرجعية نموذج راقٍ بالزهد والإيثار وتغليب المصلحة العامة".

ويكمل قائلا "يحاول بعضهم –سواء من السياسيين أم من الأفراد- تجزئة كلام المرجعية, ويأخذوا ما يتناسب مع أهدافهم, ويتركون تتمة الكلام, ويأخذوا بتفسير كلامها حسب ما تشتهيه انفسهم, لا بحسب ما تعنيه المرجعية حقا, فالمرجعية ديدنها عدم الطعن بالآخرين أو ذكر الاسماء بالنص, وهذا نابع من الثقافة الاخلاقية لرجال الدين".

ويوضح كاتب المقال "تشير المرجعية الى السلبيات وتمتدح الايجابيات بغض النظر عن مسمى الطرف بالموضوع, لأن الفكرة أهم من التشخيص -وخصوصا في الشأن السياسي- إذ إن الحدث عادة مرتبط بسلوك جهات أو هيئات بعناوينها الحكومية والوظيفية لا بعنوانيها الشخصية.

وينهي مقاله "كلام المرجعية كلام مهم, وهو كما قلنا مترابط, ولا يحق لأحد أن يدلو بدلوه لتفسير كلامها دون معرفة, ودون الاطلاع على منهجية المرجعية وأسلوبها في التعامل مع الأحداث, وعلى من يسمون أنفسهم محللين, أن ينتبهوا إلى أن المرجعية حينما تعطي رأيا في موضوع ما فأن رأيها نابع من المصلحة العامة, وليس فيه أي شائبة لمصلحة خاصة لها, أو لفئة أخرى من الناس, فهي أكدت مرارا وتكرارا على أنها تقف على مسافة واحدة من جميع المكونات السياسية".

تحقيق: عماد بعو ـ تحرير: فضل الشريفي

مجلة الروضة الحسينية