الدلائل على تشيّع (صقلية) في عهد الدولة الفاطمية

(الحلقة 4)

د. منال حسن عكله

كان للتشيع بداياته في صقلية، اذ دخل التشيع الى صقلية مع دخول الجيوش الفاطمية اليها، فهذا الجيش كان يحوي على عدد كبير من العوائل العربية التي تدين بنصرة أهل البيت، او من قبيلة كتامة التي اشتهرت بولائها وتشيعها وحصولها على الحظوة عند الدولة الفاطمية.

كما انها - كتامة- من القبائل التي كانت لها منزلة عالية في صقلية، وكانوا أول من حضر الى الخليفة محمد المهدي بالله الفاطمي، وأعلنوا دخولهم في المذهب الاسماعيلي، وقد يعود ذلك الى البدايات الاولى لدخول العرب الى صقلية، فموسى بن نصير كان احد رجال الشيعة ايضاً، ومعنى ذلك ان قادة الفتح الاوائل تركوا الكثير من الاهالي الذين يدينون بالمذهب الشيعي في صقلية، وهناك العديد من الدلائل على وجود اصل ثابت للتشيع في صقلية ومنها:

1-ما ان تسلم الوالي الفاطمي ابن ابي الخنزير حكم صقلية عام (297هـ/910م) حتى اخذ بإحكام المذهب الشيعي، وأقام له موظفين من أتباع المذهب الفاطمي مقام الصقليين في المناصب الادارية في صقلية.

2-القبائل البربرية: ان الجيوش التي اتجهت نحو صقلية كانت قادمة من شمال افريقيا على اعتبار ان الحكم الفاطمي لصقلية بدأ مع اول خليفة فاطمي وهو عبيد الله المهدي، الذي كان لا يزال في شمال افريقيا (المغرب) فكان التشيع في المغرب قد انتشر وأخذ مداه فيها فأصبح هؤلاء الشيعة من البربر يشكلون غالبية الجيش الاسلامي الذي فتح صقلية، واستقر فيها فيما بعد، وقد ذكر مورينو:"وكانت صقلية قد اصبحت ملجأ لسكان افريقيا الخائفين من بطش الزيريين، ونمت فيها اصناف التجار والصناع واصحاب الاملاك، وتكونت الطبقة الوسطى التي هي صلب الدولة القومية".

3-هروب العلويين من بطش الدولة الاموية في المشرق الى شمال افريقيا، ومن الاندلس الى صقلية، فدولة الادارسة في صقلية كان لها جذورها التاريخية وتاريخها في الهجرة من منطقة لأخرى، فمن تأسيسها في المغرب - دول الادرسة - على يد ادريس بن الحسن الهارب من وقعة (فخ)، التي اعلن بها قيام اول دولة علوية في المغرب والذي بايعته معظم القبائل البربرية والى قيام دولتهم بالأندلس من الاسرة العلوية الحمودية.

وكانت دولة الادارسة من اهم العوامل واكبرها التي غذت التشيّع في الأندلس وأمدته بألوان ثقافية جديدة، ثم جاءت الدولة الفاطمية وسيطرت على شمال افريقيا ومصر وصقلية، فكانت بمثابة الطوفان الهائل للتشيع الذي مهد الى التسلل الى داخل الدولة الاموية في الاندلس، ومهد الطريق الى قيام دولة بني حمود العلوية الادريسية فيها، ونجد هذه الدولة نفسها انتقلت الى صقلية وكونت امارة مستقلة بنفسها، كان لها صداها السياسي والفكري على يد الادريسي، الذي ما هو إلا ابن لها، وقد أكد ياقوت الحموي ان الجزيرة كان يسكنها اهل افريقيا قبل الفتح العربي لها بقوله:"كانت قليلة العمارة خاملة قبل الاسلام، فلما فتح المسلمون بلاد إفريقيا هرب أهل إفريقيا إليها فأقاموا بها فعمروها فأحسنوا عمارتها ولم تزل على قربها من بلاد الاسلام حتى فتحت في أيام بني الأغلب على يد القاضي أسد بن الفرات".

4-العلماء الشيعة: انتقل الى صقلية في عهد الاغالبة والولاة الكلبيين والادارسة العديد من المفكرين والدعاة والعلماء الشيعة ومنهم (ابن حوقل) الذي عُد احد دعاة الاسماعلية، و (الادريسي) وهو من العلويين الحموديين، الذي كان له أثراً عظيماً على حركة الفكر والادب والفلسفة في صقلية، و (موسى بن عبدالله العلوي) و (أبو محمد الفقيه) الذي استنابه نقيب العلويين على قسم الاشراف، وقد تأثر أهالي صقلية بالأدب العربي لاتسامه بصدق العاطفة وقوة الشعور الديني.

كما إننا لا نستبعد وجود علماء أو شيعة أو فاتحين لجزيرة صقلية منذ الفتح الإسلامي لها في الخلافة الاموية في المشرق، وهذا ما وضحناه في بداية الفصل، وهذا يعني أن المذهب المالكي أو الحنفي لم ينفردا بنفسيهما في صقلية بل شاطرا المذهب الشيعي في فترة سيطرة الاغالبة على صقلية، فضلاً عن الديانات السماوية الاخرى كالنصارى واليهود.

5-ومن دلائل التشيع في صقلية انه لما استقر الخليفة المهدي الفاطمي بافريقيا كتب الى جميع البلدان بأخذ البيعة وأمر الخطباء أن يذكروا اسمه على المنابر، وبطبيعة الحال احدى هذه البلدان لابد أن تكون صقلية.

6-ابن خلدون يسمي الولاة الكلبيين:" ملوك صقلية القائمين فيها بدعوة العبيديين –الفاطميين-"، اذن فابن خلدون يقصد بدعوة الفاطميين انهم كانوا دعاة للفاطميين في صقلية يعملون على نشر الفكر الاسماعيلي وهذه من اهم مظاهر التشيع في صقلية.

كما يقول ايضاً:"نرجع إلى القائمين بالدعوة (العبيدية) بالنواحي وهم الصليحيون باليمن، وبنو أبى الحسن الكلبي بصقلية". اما ابن حوقل فيدعوهم بـ"السلاطين الذين حكموا باسم الفاطميين".

7-كان دُعاة الجزُر يرسلون الاموال الى المعز لدين الله الفاطمي، وفي ذلك يقول المعز الفاطمي لمجموعة من الوفود التي جاءته من الجزر تحمل اليه الاموال، بعد أن أثنى عليهم:" ان كان الذي يحمل فلان الى الحضرة هو الذي قرّبه من ولي الله فإن اكثر اهل جزيرته هم سلاطين الدنيا وملوكها، واهل اموالها ونعيمها واكثرهم قد دخلوا دعوته فهم يتقربون ويوصلون من الواجبات اليه ما لا يصل الى غيره، ونحن فإنما رغبتنا في إقامة الامر واستعداد كثرة المؤمنين، واكثر من يتصل بنا من أنكد سلاطين الجور واجحفهم، وعامة من الناس لا كثير أموال عندهم فقل ما يوصلونه إلينا". وقد تكون احدى هذه الجزر المعنية صقلية لان صقلية واقعة في بلد يدينون بدين النصرانية او غير ملة الاسلام وفي هذه يقول القاضي النعمان يصف بعض الحوار الذي دار بين دُعاة الجزُر والمعز الفاطمي:"ثم ذكر اخباراً قبيحة بلغته عن بعض الدعاة ممن نصب في طرف من اطراف بلد الاسلام، الشرك به اغلب، وسلطانه عليه المستحكم، وان قرب العهد بذلك وظهوره في الدار وسوء حال ذلك الدعي وحمله. فيما اتصل به عنه الى ان رخص لهم في بعض المحارم [المحاربة والاصلاح] التي يستحلها اولئك المشركون، وأظهره بذلك الغمة واستعبروا تاوه، وذكر انه قد اعمل الحيلة في تطهير تلك الجزيرة من ذلك الذي انتهى اليه عنه لكي يصلح الله تعالى أمرها...."

8- عندما دخل العرب إلى صقلية كانوا حاملين معهم الدين الإسلامي في بداية (القرن الثالث الهجري/ نهاية القرن التاسع الميلادي) وكانت عندها المذاهب الإسلامية قد ظهرت جميعها في المشرق، لذا تأثرت صقلية بعلماء الدين وميولهم المذهبية الذين دخلوا إليها، اما بني الاغلب فقد كانوا يميلون إلى المذهب الحنفي على اعتبار انه مذهب الخلفاء العباسيين في بغداد، اذ يقول احد المؤرخين:" والمذهب السائد في المغرب هو مذهب اهل العراق في الاصول والفروع، لأن ذلك يومئذ هو مذهب الخلفاء بالمشرق، والناس على قدم إمامهم، بعدها اعتنق اهالي المغرب المذهب المالكي الذي غلب على المغرب وافريقيا، ولما سيطر عبيد الله الشيعي سنة (296هـ/908م) على افريقيا - المغرب- اظهر التشيع فيها، وأسند المناصب الهامة في الدولة إلى من كان يثق بهم، وامر القضاة ان لا يفتون إلا بمذهب جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، ولم يستخدم الاسماعيليون القوة في نشر المذهب الاسماعيلي في المغرب بل اتبعوا أسلوب المجادلة والمناظرة مع اصحاب المذاهب الأخرى لإقناعهم واستمالتهم...

وبعد سيطرة الفاطميون على صقلية، جعلوا ولاتهم في صقلية من انصار مذهبهم الاسماعيلي، كما ان عبد الله المهدي اعتمد في سياسته على الكتاميين، الذين كانوا اشد انصار المذهب الاسماعيلي، سواء في افريقيا أو مصر أو صقلية، اذ كان تنظيم الدعاية في صقلية للمذهب الاسماعيلي الذي كان دعاته يعملون على جذب الناس إليه، كما تشير المصادر التاريخية إلى ان احد اسباب ثورة اهالي صقلية على الوالي الفاطمي البلوى سنة (360هـ/971م) هو مقتل ابي عبد الله الشيعي اذ كان من الثائرين جماعة من تلاميذ مدرسة ابي عبد الله الشيعي الذي عز عليهم مقتله، فكان أن سبّبَ مقتله موجة من السخط والغضب شملت المغرب وصقلية، وهذا يعني ان أعداد كبيرة من الثائرين كانوا من انصار المذهب الشيعي، كما ان أول ولاة صقلية الذين أرسلهم ابو عبيد الله المهدي مثل ابن ابي خنزير الكتامي والكتاميين كانوا معروفين بتشيعهم وولائهم للفاطميين، بل ان المذهب الشيعي استمر وجوده في صقلية حتى بعد زيارة ابن جبير إليها سنة (580هـ/1184م) وهي فترة سيطرة النورمان على الجزيرة، عندما التقى بأحد العلويين الادارسة الذي كان أميراً على قصريانه وجرجنت في ظل حكم النورمان عليها، وهذا يعني استمرار وجود المذهب الشيعي في صقلية، كما اننا وجدنا اسم لأحد الاسر العربية الحاكمة التي تنتمي إلى شريك العبسي في صقلية في ظل حكم النورمان عليها وشريك العبسي هو أحد أصحاب الإمام علي (عليه السلام) وهذه إحدى الدلائل على استمرار وجود التشيع في صقلية.