المسلمون في أوروبا وصياغة الهوية وإشكالات التأقلم.. مسلمو أسبانيا أنموذجاً

ناصر الخزاعي

قفزت أعداد المسلمين في أوربا خلال العقود الخمسة الأخيرة قفزة كبيرة أفزعت العالم الأوربي ودعته إلى إعادة الكثير من الحسابات المستقبلية، فما أن دخلت الألفية الثانية حتى جاوزت أعداد المسلمين الخمسة عشر مليونا، وهو رقم كبير يضع أصحاب الديانة المحمدية في المرتبة الثانية من حيث عدد السكان بعد الديانة المسيحية مباشرة وهي الديانة التي اعتنقها الأوربيون منذ قرون طويلة.

ولعل أكبر الإشكاليات التي تواجه الأوربيون اليوم لا تتمثل بالطريقة المثلى التي يتخلصون بها من المسلمين على غرار ما حدث في أسبانيا، عندما سقطت دولة المسلمين في غرناطة وطرد المسلمون وأبيدوا أو أجبروا على التنصر، ولا في كيفية إدماج هذه الملايين الملتصقة بثقافتها الاسلامية وإنما تتمثل مشكلة الأوربيين بالدرجة الأساس في كيفية قبول هذه الأعداد داخل المجتمع الأوربي وفي كيفية التعايش الاجتماعي والثقافي الذي يجعل من المسلمين أوربيين حتى وإن حافظوا على هويتهم الاسلامية، فقد دعت مراكز الدراسات الاستراتيجية الأوربية الغرب الى الاقرار بدور واثر الفكر الاسلامي والعربي في الثقافة والحضارة الغربية كشرط لتجديد الحوار بين الثقافتين. وهذه دعوة لا تزال تنتظر رد فعل العرب والمسلمين بنفس القدر أيضا من أجل خلق عالم إنساني بلا كراهية ولا أضغان أو عداوات ناجمة بسبب الأديان .

ولعل أول ملاحظة تسجل عن الاسلام في أسبانيا هو قلة عدد المسلمين قياسا إلى البلدان الاوربية الأخرى حيث لا يتجاوز هذا العدد النصف مليون مسلم بسبب التشديد الذي تبديه السلطات الاسبانية في استقبال المسلمين، وبسبب عدم وجود مستعمرات اسبانية داخل البلاد الاسلامية عند تقاسم الاوربيين لدول العالم عبر الاحتلال، مما أسهم في ضعف الروابط بين أسبانيا والعالم الاسلامي مع القرب الجغرافي ومع قوة الروابط التجارية والتاريخية بين اسبانيا وجيرانها من المسلمين.

وغالبية مسلمي اسبانيا هم من الاسبان الأصليين الذين حافظوا على ديانتهم بإخفائها عن السلطة الحاكمة عندما طرد المسلمين من بلاد الاندلس عام 1609م، والباقي كانوا من الطلبة المسلمين الذين ذهبوا الى اسبانيا لغرض الدراسة وآثروا البقاء والتجنس في هذه البلاد الجميلة الخضراء والمعتدلة الحرارة.

ويتنوع مسلموا اسبانيا بين مسلمين ذوو أصول أفريقية وأخرى أسيوية وأقلية من الايرانيين و الأتراك ، حيث يأتي المغاربة في مقدمتهم يليهم الفلسطينيون ثم بقية بلاد الشام كلبنان وسوريا، ويتركز غالبية المغاربة في (سبتة) و(مليلة) وفي بقية المدن الأخرى التي تعدلت فيها قوانين الاقامة والتجنيس بعد دخول أسبانيا الى الاتحاد الأوربي في العام 1985م،

بينما يشكل الأسبان المعتنقين للاسلام بحدود الخمسة آلاف نسمة يعيش أغلبهم في المقاطعات الجنوبية كقرطبة وغرناطة واشبيلية، وينقسم مسلموا اسبانيا إلى سنة وشيعة يشكل السنة الغالبية العظمى من مسلموا هذا البلد متوزعين في شرق البلاد وغربها وفي شمالها وجنوبها، بينما يتوزع الشيعة في ثلاثة مدن رئيسة هي ( العاصمة مدريد وبرشلونة وبلنسية).

ويشكل الشباب من مجموع المسلمين في أسبانيا ما مجموعه النصف تقريبا من العدد الكلي للمسلمين، ويعمل أغلب هؤلاء الشباب كالجزائريين في الزراعة وجني المحاصيل الزراعية أوقات موسم الحصاد، كما يعملون في البناء كالمغاربة أو في التجارة كالايرانيين، ويتوزع الاخرون في أعمال شتى، بينما امتهنت أقلية قليلة منهم للأعمال والوظائف الحكومية.

أما فيما يخص المؤسسات الاسلامية النشطة في أسبانيا فإن (المنظمة الاسلامية الاسبانية) التي تأسست في العام 1971م تعد أول منظمة اسلامية رسمية حاولت استقطاب المسلمين والاهتمام بشؤونهم لا سيما بعد سماح الجنرال (فرانكو) بالسماح لذوي المعتقدات الأخرى غير المسيحية في أسبانيا بتأكيد وجودها شرط عدم الاخلال بالنظام العام، وقد قامت هذه المؤسسة التي ترعاها الجالية السورية المسلمة ببناء أول مسجد إسلامي في العاصمة مدريد منتصف السبعينيات من القرن المنصرم.

وقد تكاثرت المنظمات والمؤسسات الاسلامية بعد عقدين من الزمان وبسبب ازدياد أعداد المسلمين في أسبانيا لكن نقص التمويل كان دائما ما يقف عائقا أمام هذه المنظمات في السير بمهامها التي أنشئت من أجلها ولا سيما في الإثبات للأسبان أنفسهم بأن الدين الاسلامي كان له حضور كبير في الحياة الثقافية عند الأسبان قبل قرون، وإن الاسلام لايزال حضوره موجودا حتى في الأزمنة الراهنة.

وعلى الجانب السياسي فقد سعت الحكومة الاسبانية مع مطلع التسعينات من القرن الماضي في محاولات جادة من اجل دمج مسلموا اسبانيا في المجتمع الاسباني، وقد ساعدت هذه المحاولات في تحسين معيشة المسلمين وخففت وطأة التعصب ضدهم من خلال إدخالهم في البرامج الانتخابية كسبا لدعمهم عن طريق التصويت الانتخابي الذي تتصارع حوله أحزاب اليسار واليمين في أسبانيا.

ومع كل التسهيلات التي تقدمها الحكومة الأسبانية للمسلمين الا أن الجاليات الاسلامية تواجه عراقيل متعددة تواجه طموحهم المشروع في التعبير عن أنفسهم، وعلى رأس هذه العراقيل هو عدم الاطمئنان إلى المسلمين والخوف من ردود أفعالهم نتيجة للتهويلات الاعلامية التي تتبعها وسائل الاعلام الأوربية، وتأثيرها القوي في المواطن الأوربي الذي لا يعرف الحقيقة المسالمة والوديعة التي ينخرط تحتها عموم المسلمين، الذين شردتهم الدكتاتوريات والبطالة وانعدام الحريات في أوطانهم، فحاولوا البحث عن وطن بديل يذوبون فيه من دون أن يتخلون عن مبادئهم وثوابتهم العقائدية، التي تربوا عليها وحملوها أمانة في أعناقهم أين ما ذهبوا...