الفاطميّون في صقلية (296-484هـ / 909-1091م)

الحلقة (1)

د. منال حسن عكلة

تكمن أهمية هذه الدراسة التاريخية العلمية في أن (صقلية) تعد اكبر جزيرة في البحر المتوسط ذات موقع استراتيجي للغاية، وكانت باباً للشرق للتوغل في الغرب، انجبت العديد من النابغين، حتى اصبحت دراستها هي دراسة ثرية بعيدة الغور فسيحة الآفاق.

كما أن الإطلاع على جغرافيتها وسياستها وعلومها وفنونها كان غايتنا، فهي جديرة بالدراسة والبحث والتأمل لأنها سلطت الضوء على تاريخ مهم شكّله المسلمون في جزيرة أوروبية التي حولوها إلى حديقة يانعة وكانوا سبباً في ازدهار العلوم والفنون والآداب فيها، سواء كانوا حاكمين بها أو محكومين، فأصبحت العلوم بفضلهم تدرس في كل مدينة وقرية واصبح العلم يدرس فيها في المساجد والجوامع وفي كتاتيب خاصة ومكاتب يتجاوز عدد المعلمين فيها أحياناً إلى (12) معلّم أو أكثر وهو أمر لم تصله اوروبا ولن تصله إلا بفضل حكم العرب لهذه الجزيرة.

ورغم الاعمال العظيمة التي قام بها المسلمون سواء بصقلية او في جنوب ايطاليا فإن اعداء الاسلام لعبوا دورهم في القضاء على التراث الحضاري والانساني الكبير، فلم يتركوا لنا إلا النزر اليسير الذي نحاول ان نتلمس من خلاله حضارتنا الزاهية ونعيدها للحياة بعد فترة طويلة من الركود، لاسيما وان الدراسات عن الناحية السياسية والفنية للجزيرة قليلة ولكن الموجود منها يرتقي الى مستوى الدراسة الجدّية، فاخترنا هذه الفترة الزمنية من القرن (2-4هـ/8-10م) لكونها الفترة التي عاشت فيها الجزيرة أوج ازدهارها الحضاري بكل جوانبها.

لقد كان الفاطميّون بعيدي النظر حين أدركوا ان الجيوش البرية وحدها لا تكفي لحماية العالم الاسلامي، فقاموا بإنشاء اسطول ضخم يحمي البلاد من الهجمات البيزنطية، ثم يدافع عنها بعد ذلك في الحروب الصليبية، لذا وضع الفاطميون منذ الساعة الاولى لحكمهم في صقلية وغيرها خطة هي أن يقوم حكمهم على قواعد ثابتة لنشر المذهب الاسماعيلي وتحقيق اكبر انجازاتهم خلال مدّة وجيزة.

ولتحقيق هذا الهدف وجب تعيين حكام وولاة وأمراء أكفاء من قبلهم - اي الفاطميين - في المناطق التي تخضع لسيطرتهم، وصقلية الواقعة في القارة الاوربية كانت احدى تلك المناطق التي سيطروا عليها لمدة قرنين ونصف من الزمان أو اكثر، فحكم خلال تلك الفترة ولاة من قبل الفاطميين في صقلية، وكان عصر الولاة (296-336هـ/908م-947م)، ثم حكم الامراء الكلبيين بإسم الدولة الفاطمية في صقلية فجاء عصرهم، وهُم حسب التسلسل التاريخي:

1-الوالي علي بن احمد بن ابي الفوارس (296-297هـ /908-909م): كان علي والياً في السابق للاغالبة في صقلية وعزل من قبلهم، ولما قامت الدولة الفاطمية في المغرب على يد عبيد الله المهدي (296هـ/908م) تزعم ابو الفوارس الفئة المناصرة للفاطميين التي تغلبت على الفئة المناصرة للاغالبة واعتقلت آخر الولاة الأغالبة في صقلية الوالي احمد بن ابي الحسين.

2-الوالي الحسن بن احمد بن ابي خنزير الكتامي:حكم للمدة (297-298هـ/909-910م) الذي وصل الى صقلية في عام(297هـ/909م) ويذكر انه كان احد الرجال المخلصين  للدولة الفاطمية، كما انه كان من قبيلة كتامة المعروفة بتشيّعها وولائها للدولة الفاطمية .

3-علي  بن عمر البلوي: حكم للمدة (299هـ-300هـ/912-913م) حكم صقلية بأمر من الخليفة الفاطمي عبيد الله  المهدي (297-322هـ/909-934م).

4-احمد بن زيادة الله بن قرهب: حكم للمدة (300هـ-304هـ/913-917م) وهو شريف ثري ينتمي لأسرة وثيقة الصلة ببني الاغلب، تم تعيينه من قبل الخليفة الفاطمي، وقيل ان اهالي صقلية اختاروه وكان يدين للخلافة الفاطمية في بداية حكمه.

5-ابو سعيد موسى بن احمد المسمى بالضيف (304هـ-313هـ/917-924م): تولى حكم جزيرة صقلية في عام (304هـ/935م) وكان يلقّب بالضيف.

6-سالم بن راشد (313-322هـ/924-934م): عندما قرر والي صقلية السابق موسى بن احمد العودة الى افريقيا، تم تعيين سالم بن راشد محلة، وارسل معه جماعة من قبيلة كتامة البربرية.

7-خليل بن اسحاق: حكم للمدة (325- 330هـ/936-942م) وكان قد دخل صقلية بأمر من الخليفة الفاطمي القائم بأمر الله (322-334هـ/934-945م) بعد ان ثار أهل صقلية سنة (325هـ /936م) ضد أميرهم سالم بن راشد الذي طلب مساعدة القائم الفاطمي ضد الثوار، فكان الجيش الذي أرسله القائم الفاطمي بقيادة خليل بن اسحاق، الذي اطاعه اهل صقلية فأكرمهم وعزل عنهم عمال سالم، فقام خليل في صقلية خمس سنوات ثم رجع بعدها الى افريقيا.

8-ابن الكوفي محمد بن الاشعث: تولّى حكم صقلية دون ان يحمل لقب (والي) على بلرم، بأمر من خليل بن اسحاق سنة (330هـ/942م) مع عطاف الازدي، فحكم الاثنان الجزيرة ولكن في سنة (334هـ/946م) توفي ابن الكوفي محمد بن الاشعث.

 9-عطاف الازدي: استقل بحكم صقلية بعد وفاة ابن الكوفي محمد بن الاشعث من سنة (334هـ/946م) الى سنة (336هـ/947م).

وهكذا، فإن حُكم الولاة الفاطميين في صقلية قادنا الى عدّة استنتاجات:

في كل مما سبق من خلال استعراضنا الموجز عن ولاة صقلية وايطاليا من الفاطميين، يتضح لنا اهمية صقلية بالنسبة للفاطميين، وذلك عندما ادركوا اهميتها السياسية والإستراتيجية، والاقتصادية، كما ان بقاءهم في صقلية كان له الاثر الاكبر في الحفاظ على مكانتهم سواء في المغرب او في مصر بعد دخولهم اليها، كما انها تعني بسط سيطرتهم على البحر المتوسط، فوجود الولاة الفاطميون في صقلية يجعل سواحل افريقية بمأمن من الغزوات الرومية، كما انها ساعدت على تثبيت امتدادهم في مصر وبلاد المغرب فيما بعد، فضلاً عن ان صقلية من الناحية الاقتصادية كانت ارضاً مثمرة وكثيرة الخيرات، تحوي الكثير من الغلات الزراعية، كما تحوي على الثروة المعدنية من الذهب والفضة والنحاس وغيرها.

ان حكم الولاة الفاطميين في صقلية يقودنا الى استقراء هذه الفترة وتلخيصها  بالآتي:  

1-كان بعض الولاة الاسماعيلية – الشيعة - الذين حكموا صقلية قد اساءوا الى اهلها ولم يكن لهم معرفة بأمور الدولة الادارية وسياسة الدولة، لأنهم قادة عسكريون لذا جاءت شدتهم وصرامتهم من التعامل مع الناس بانهم لم يستطيعوا الفصل بين ساحة المعركة وادارة شؤون الدولة.

2-نجد استجابة العديد من الخلفاء الفاطميين لأهالي صقلية عندما يثورون على الوالي ويطالبون بتغيره معتذرين الى الخليفة الفاطمي، ومبررين له تصرفهم بأن هذا الوالي لا يتناسب مع  ما كانوا يطمحون اليه من الاستقلال والأمان .

3-وفي هذا اشارة واضحة تقودنا الى ان نقول ان اهالي صقلية لم يرفضوا الحكم الشيعي ولا المذهب الاسماعيلي فلم يحدث خلال حكمهم سوى بعض التمردات البسيطة من أسرة بني الطير، او ابن قرهب، التي كانت تحاول زعزعة الامن والاستقرار في الجزيرة، والتي لم تشكل تهديداً كبيراً للدولة الفاطمية، وهي ان قامت ضد والٍ معين كانت بسبب سوء سياسة  الوالي.

4-عمد الفاطميين الى نشر المذهب الاسماعيلي في صقلية من خلال تعيينهم ولاة اسماعيلية لاسيما من قبيلة كتامة المشهورة بتشيعها، كما ان القادة كان يجلبون معهم اهاليهم حتى اصبحت جرجنت - في صقلية - يسكنها البربر الكتاميون، وهذا دأب الفاطميين في نشر مذهبهم دون اللجوء الى القوة والشدة في فرضه على عامة الشعب.

5-استطاع الولاة الفاطميون رغم صغر مدة حكمهم - أي حكم الولاة قبل مجيء الكلبيين أمراء الفاطميين في صقلية - القضاء على الثورات والفتن التي أقيمت في صقلية لكن مع ذلك لم ينعم اهالي صقلية بالأمان الكامل بسبب تمردات بني الطير او بسبب سوء الادارة من قبل احد هؤلاء الولاة او بسبب الشغب والتمرد الذي كان صفة ملازمة لأهالي صقلية.

6-اصبح للفاطميين الخبرة في محاربة البيزنطيين بعد ان اصبحوا وجهاً لوجه أمام البيزنطيين في صقلية وهذا اكسبهم الخبرة في القتال والدراية بالامور الحربية والبحرية، مما ساعدهم في تفوقهم في حروبهم ضد الامويين في الاندلس، والعباسيين في المشرق.

7-قصر عمر الولاة، وتمردات بني الطير الذين كانوا من الاعيان وربما كانوا يخشون من سياسة الفاطميين الجديدة في الجزيرة بان تحرمهم من املاكهم وثرواتهم لذا وقفوا ضدها منذ البدء..

8-وقوف الولاة الفاطميون ضد العصبية القبلية في صقلية بسبب ان بعض ثوراتهم قامت بسبب تفضيل الكتاميين البربر على العرب وجعلهم ولاة على صقلية ابتعدوا عن العنصر القبلي، فلم يأبه الفاطميون بذلك الامر في صقلية بل وقفوا ضده وعملوا على استئصاله.

دور الأسرة الكلبيّة

ولعبت بعض الأسر العربية دوراً مهماً في التاريخ الاسلامي، في فترات التاريخ المختلفة – صدر الاسلام والخلافتين الاموية والعباسية - علماً ان هذه الأسر لم  تنحصر شهرتها على مستوى الشرق الاسلامي بل اصبح لها اسماً مدوياً في الغرب ايضاً.

ومن هذه الأسر الأسرة الكلبية. ولفظ (كلب) في العربية يدل على كل سبع عقور، وكان لكلب بن وبرة اخوة عدة سموا بأسماء السباع، مثل أسد ونمر وثعلب، وكان يقال لأمهم أم الاسبع، وبهم سمي (وادي السباع).     ويعد النسابون العرب (كلب بن وبرة) احد (المنجبين) لكثرة نسله، حتى ذكروا أن بنو كلب وحدهم يزيدون على قيس وخندف في البدو والحضر؛ ويعدون القبيلة أحدى (جماجم العرب) والجمجمة هي القبيلة التي تجمع البطون فينسب اليها دونهم، قيل: (فلان الكلبي) استغني عن النسبة الى شيء من بطونها.

كما يعدونها من (ارحاء العرب) وهي القبائل المشبهة بالرحى، تكون لها ارض تحميها ولا تظعن عنها.

ورغم قلة المصادر التي تذكر هذه الاسرة، فهناك اشارة الى ان اصولهم ترجع الى قبيلة قضاعة، فقد ورد في معرض الحديث عن ابن المؤدب الشاعر اثناء ترجمة المؤلف له وفيها:" كان مغرى بالسياحة وطلب الكيمياء، والاحجار، وكان محروما مقتراً عليه، متلافاً اذا افاد شيئأ، فخرج مرة يريد جزيرة صقلية، فأسره الروم في البحر، واقام مده طويلة الى ان هادن ثقة الدولة - يوسف بن عبد الله بن محمد ابن ابي الحسين القضاعي، صاحب صقلية الروم، وبعثوا اليه بالأسرى فكان عبد الله المذكور فيمن بُعث.

ففي هذا الخبر ما يفيد ان الكلبيين ينسبون الى قبيلة قضاعة، ويعضده ما جاء في الاشتقاق:" ان من قبائل قضاعة كلب بن وبرا، وقد ورد ان اصل قضاعة هي قحطانية، فقد رجح القلقشندي انها قحطانية بقوله:"هذا هو المشهور فيه، كما قال ايضاً – أي القلقشندي:" بنو قضاعة قبيلة من حمير من القحطانية غلب عليهم اسم أبيهم فقيل لهم: قضاعة، وهم بنو قضاعة بن مالك بن عمر بن زيد بن مالك بن حمير"، وهذا هو المشهور فيه وذهب بعض النسابين الى ان قضاعة من العدنانين.

وعلى الرغم مما كان لهذه القبيلة من مكانة حظيت بها في بداية الحكم الاموي، وموقف قبيلة كلب من خلفاء بني امية المتأخرين ضعف ارتباطهم ومساندتهم لبعض من الخلفاء، واذا اردنا ان نتعرف متى تغيّر بنو امية على قبيلة كلب بالتحديد التاريخينقول كان ذلك منذ خلافة الوليد بن عبد الملك (86هـ-96هـ/705-715م) الذي قرب اليه القيسية - لأن أمه كانت قيسية - ولم يعد الكلبيون يحظون بالامتيازات والقرابة لديهم، وبدا هذا الامر واضحاً اكثر في خلافة يزيد بن عبد الملك(101هـ-105هـ/719م-723م).

كما اننا لابد ان نذكر انه كان لقبيلة كلب دور في مساندة الثورات الشيعية كثورة عبد الله بن معاوية بن جعفر الطالبي الذي ثار ضد الخليفة مروان بن محمد (127هـ-132 هـ/745-750م) اذ انضمّ اليه منصور بن جمهور الكلبي مع أصحابه الكلبيين، وكان عبد الله بن معاوية قد حكم وقتها فارس والاحواز وكرمان، فارتفع شأنه لاسيما بعد ان انضم اليه كل المناهضين لحكم بني اميه مثل العلويين والكلبيين والعباسيين، ولكن الخليفة الاموي ارسل عليهم جيشاً بقيادة عامر بن ضبارة، فقتل الكثير منهم ومنهم زعيم الثورة الطالبية نفسه، وأما ما تبقي من أبناء كلب فقد أمر بإبعادهم خارج حدود بلاد الشام، وهذه السياسة التي اتبعها مروان الحمار كان يهدف منها إبعاد بني كلب عن مسرح الحياة السياسية، لاسيما وأن تقرّبه الى القيسيين بدأ واضحاً.

وأدّت هذه السياسية الاموية الى اقتراب نهاية حكمهم، نظراً لان بني كلب والقبائل اليمانية كانوا يشكلون العمود الفقري للقوة العسكرية التي يستند عليها الحكم الاموي، وكانت سياسة مروان بهذا الصدد بمثابة تدمير لركائز القوة العسكرية للدولة، وهكذا أدّت هذه السياسة التي اتبعها مروان تجاه كلب الى جعل الارض خصبة لموالاة الأفكار المناهضة للحكم الاموي وتمهيداً لحكم الدولة العربية الاسلامية للأسرة العباسية.       ويعتقد ان هذه القبيلة نزلت شمال افريقيا - وعاشت في كنف الدولة الفاطمية -، وهذا ما يفسر ظهور احد الكلبيين على المسرح السياسي، فقد قامت ثورة خارجية تزعمها ابو يزيد في شمال افريقيا، كادت تودي بحكم الفاطميين، فتصدى لها الحسن بن علي بن ابي الحسين الكلبي، ونزع فتيل الفتنة فكافأه المنصور الفاطمي بتنصيبه على ولاية صقلية.

يتبع